لا أحد يدري إلى هذا الوقت حجم الخسائر والخراب والتضحية التي دفعها وسوف يدفعها هذا الجيل أو الاجيال القادمة، على الأقل لا يوجد لدينا توثيق دقيق لضحايا هذه السنوات من قتلى وجرحى ومشوهين ومشردين ولاجئين من رجال ونساء واطفال، ولا يوجد توثيق دقيق لحجم الفاجعة التاريخية في الخراب النفسي الذي لحق بهذا الجيل من صور الفجيعة واليأس والتطبيع مع القتل اليومي ومشاهد الجثث والمقابر الجماعية، ولا معرفة لحجم الانهيار الفكري وحجم الردة الاجتماعية وتحلل المجتمعات العربية إلى مجاميع بشرية متناحرة على القبيلة والغنيمة والتدين الوظيفي.
لا يوجد توثيق لحجم الخسائر الاقتصادية التي لحقت في البنى الاقتصادية الهشة والمتواضعة في الأصل، حجم ما لحق من خراب ودمار في البنى التحتية التي شيدت على أكتاف أجيال، ولا حجم جائحة الفقر والعوز وملايين الشباب الذين تعج بهم الشوارع بدون عمل أو أفق أو مستقبل. ترى ما هو حجم الفوات والخراب الذي لحق بالمؤسسة التعليمية العربية علاوة على ما فيها من خراب، وما هو حجم التدمير والنهب الذي لحق بالآثار ومواقع التراث خلال هذه السنوات.
الذين دخلوا العام 2011 بصخب حرّك بحيرات التاريخ الراكدة، يخرجون من ذلك الحلم مع نهاية هذه السنة وهم يتلمسون رؤوسهم، فالدنيا ليست هي الدنيا. قبل الثورتين التونسية والمصرية بأيام، وصلت حالة اليأس السياسي والإحباط الاجتماعي قمتها، وضربت بقوة عمق المجتمعات العربية التي وصلت إلى خلاصة أنها تخرج عمليا من التاريخ وفي طريقها إلى الخروج من الجغرافيا أيضا. لكن الدراما السياسية المذهلة التي شهدتها تلك السنين، أعادت التفاؤل التاريخي بعودة هذا الجزء من العالم إلى التاريخ، إلا أنها لحظات مؤقتة لنكتشف حجم الإعاقة التي مورست لمصادرة حق هذه المجتمعات بالتغيير.
التاريخ لا يزورنا كل يوم وتلك لحظات برسم التغيير خسرناها؛ فعلى مدى عقود ماضية قيل الكثير عن التضحيات وعن الخسائر المجانية وعن وهم التحرر والتنمية والتغيير، وظلت كل تلك الخيبات تبرّر بالركون إلى وعد منتظر بالمستقبل، ما حوّل المستقبل إلى وهم كبير وكابوس يطارد الأجيال. اليوم، ورغم كل ما وصلت إليه الأوضاع العربية من سوء، هل بدأت المجتمعات العربية تتحرر من أكثر مصادر قلقها وخوفها الفعلي، وأكثر ما تخشاه، وهو الخوف من التغيير اي قدرة هذه المجتمعات على ان تفعلها مرة ثانية ومرة ثالثة.
0 comments:
إرسال تعليق