الغد 19/11/2005 ثلاثـة مشاهد عربيـة تختلف في المناخ العام، وتفترق في الدوافع التي تقف خلف كل منها، إلا أنها تلتقي في مشهد واحد هـو نهوض جديد للشعـور بالوطنيـة في ثلاثـة بلدان عربيـة متجاورة. المشهد الأول في عمان والمدن الأردنية الأخـرى هذه الأيام في الرد الشعبي على التفجيرات الإرهابية التي ضربت العاصمة غدراً، والمشهد الثاني في دمشق والمدن
السوريـة والمتمثل في حملات التعبئة واستنهاض المشاعر الوطنيـة في مواجهـة الضغوطات الأميركية، أما المشهد الثالث وهو الأقدم زمنياً ففي بيروت والمدن اللبنانية بعد حادثة شباط واغتيال الزعيم اللبناني الراحل رفيق الحريري.
بينما تجسد مشهد الوطنية اللبنانية الجديدة في مناخ مضاد للسلطة ورموزها، يتقاسم المشهد السوري استقطابان أحدهما رسمي مصدره السلطة والدوائر الرسمية التي تحاول ان تخلق حالة استنهاض وتعبئة مضادة لما يمكن توصل إليها التداعيات المتبادلة مع الولايات المتحدة من احتمالات، والثاني مصدره قوى وطنية ومؤسسات مدنية معنية بالخوف على وطنها قبل كل شيء، أما المشهد الأردني فهو الأكثر انسجاماً مع الذات، والأكثر عفوية وهو الأبعد عن مناخات الاستقطاب، ولا يحمل تفسيرات ملونة. في التفاصيل السريعـة، وحدت العمليات الإرهابية مشاعر الأردنيين والتفافهم حول وطنهم في واحدة من أكثر لحظات التاريخ الأردني المعاصر تعبيراً عن الوحدة الوطنيـة. وابتكر الأردنيون وأبدعوا أدوات متعددة، وتجلى ذلك في المسيرات الشعبيـة التي طافت على مدى أيام العاصمـة والمدن والقرى الأردنية، واستمرت على شكل نوبات من التعبير الشعبي.
برزت الرايـة الأردنية - التي كانت قبل سنوات قليلة موضع شد بين الحكومـة وبعض المؤسسات المدنيـة على خلفيـة عدم الالتزام برفعها فوق المباني- مظلـة مشتركـة وأداة توحيد لجميع أطراف المجتمع بمختلف انتماءاتهم السياسيـة وخلفياتهم الاجتماعيـة، إلـى جانب الظهـور الواضح لرموز الوطنيـة الأردنيـة، وعلى الرغم من ان وسائل الإعلام الرسميـة الأردنيـة لم تمارس دورا تعبويا تحريضيا بالشكل التقليدي، فلقد تبلور وعي الوطنيـة الأردنيـة في هذه الأيام من خلال إدراك ذاتي أصيل وتلقائي. المهم في هذا التطـور ان مناخ الوطنيـة الأردنيـة الراهن قابل للبناء عليـه.
الرموز والتعبيرات الجمعيـة التي سادت خلال الأيام الماضيـة تؤكد ان كافـة الثقافات الفرعيـة للمجتمع الأردني محتواة في هويـة وطنيـة أردنية مركزيـة وقيم النظام السياسي وخبراته. هذا الواقع يلفت الانتباه إلى إحدى أدوات التنميـة السياسيـة التي كنا نتعامل معها بحساسيـة وحرج، ويكشف بأن الهويـة الوطنيـة الأردنية المركزيـة في طريقها إلى التبلور النهائي على حقائق التاريخ والجغرافيا والإنجاز والخبرات المشتركـة لكل الأردنيين، وأمسّ ما تحتاجه هذه الهويـة لتكون أداة للتنميـة السياسيـة يكمن في وجـود مؤسسات مجتمعيـة قويـة تكون أدوات لتنشئـة عقلانيـة وحكيمـة.
أما الوطنيـة اللبنانيـة الجديدة فقد أخذت بالتبلور منذ الربع الأول من العام الجاري على خلفيـة الأحداث التي تداعت عقب اغتيال الرئيس الحريري، فلقد قيل الكثير عن ربيع بيروت وعن الاستقلال الثاني الذي قاد إلى خروج القوات السوريـة وخلخلة البنى السياسيـة اللبنانيـة. وكانت انتفاضـة 14/ آذار بمثابـة لحظـة صعـود الوطنيـة الجديدة التي انصهر فيها كافـة اللبنانيين بمختلف طوائفهم وخلفياتهم الاجتماعيـة والسياسيـة وبشكل نسبي غابت عنها النظرة اللبنانيـة التقليديـة الضيقـة، حينما تعاضدت فيها قوى إصلاحية ليبرالية ويسارية وإسلامية، لكن حظ الإصلاح العربي العاثر خلال الأعوام القليلـة الماضيـة عادة ما يشوه حينما تدخل الولايات المتحدة انفها في لجـة حركـة التغيير.
في مشهد الوطنيـة السوريـة الصاعدة هذه الأيام يجدر الانتباه إلى المجتمع المدني ومثقفين وقوى إصلاحية أخرى، تطرح خطابها من خارج كراسات البعث العتيقـة، وهي في نفس الوقت ليست بالضرورة في حالـة صدام مع السلطـة، لكنها تقرأ جيداً المشهد العراقي وتخشى على الوطن السوري من المصير نفسـه.
وهناك عشرات المواقع على شبكـة الإنترنت التي تدير حملات منظمـة لمواجهـة الضغوطات الخارجية، والدعـوة إلى إصلاح الداخل وكشف مواطن الفساد وتعسُّف السلطة. خذ على سبيل المثال حملة "لا لتهديد سورية" التي تتبناها شركات ومجموعات أهلية وحملة "ارفع علمك" ونشاط جمعية العلاقات العامة السورية، ومجموعة المحامين الشباب الذين يديرون موقعاً على الشبكة يرفض الواقع الحالي لقطاعات القضاء والمحاماة وتفشي الفساد فيهما، وازدياد الوصاية الحكومية والتدخل في شؤونهما.
الوطنيات العربيـة الجديدة لا تحمل أي تناقضات مع الثقافـة القوميـة السائدة، وهي مرشحـة لقيادة حركـة إصلاحية حقيقـة تأتي من الداخل هذه المرة، وحان الوقت لكي يمنح هذا الوعي فرصـة حقيقيـة لانه التعبير الصادق عن نبض الناس الحقيقي وعن أوجاعهم وأشواقهم ومرارتهم.
0 comments:
إرسال تعليق