3/12/2005
العامل المشترك في موجة الانتخابات العربية التي جرت خلال الأيام القليلة الماضية، وتلك التي تسخن لها الأجواء هو العنف والفوضى والشغب وبالتعبير المحلي المصري موجة غير مسبوقة من البلطجة السياسية والعنف والعنف المضاد. وهي الأجواء التي خيمت على مراحل الانتخابات البرلمانية المصرية، وانتقلت مباشرة وكأنها عدوى إلى الانتخابات الداخلية لحركة فتح الفلسطينية، وتهيمن بأنماط أخرى على أجواء انتخابات الجمعية الوطنية العراقية التي ستجري بعد أسبوعين
.
لقد كشفت موجات العنف المتتالية، وما تنطوي عليه من سلوك سياسي يفتقد للحدود الدنيا من العقلانيـة والحكمـة عن أزمات حقيقيـة في التعبير السياسي لا تتوقف عند الحكومات والأنظمة الحاكمـة، بل طالت التنظيمـات المدنيـة والسياسية وقادة الرأي وعمق المجتمع، ما يظهر حجم غياب السياسية عن الحياة العامة العربية وافتقاد الحياة العامة أحيانا لأدوات سلمية تلجأ إليها أطراف العمل السياسي في التعبير عن المطالب أو الاحتجاج على ما يقترف من أعمال ترتكب باسم السياسيـة.
الخوف الحقيقي ان تتحول الانتخابات على الطريقـة العربيـة السائدة اليوم من أداة للتحـول بالمجتمعات والأنظمة العربية نحو تقاليد الحياة الديمقراطيـة والتداول السلمي للسلطـة إلى أداة لتعقيد المشهد السياسي المحلي في كل دولـة من ناحية، وإضافة المزيد من الأسباب والمبررات التي تغلق الأفق السياسي من ناحية أخرى. بمعنى آخر: جر المجتمعات السياسيـة إلى حكمـة الاستسلام للوضع الراهن وتسويفها بأنها افضل من حمامات الدماء، والوصـول إلى قناعـة بأن ثمن التغير اكبر مما يمكن ان تتحملـه المجتمعات. والاستنتاج البديهي الذي تنتهي إليه هذه القراءات بأن الديمقراطيـة باعتبارها حالـة من الوعي السياسي المجتمعي والمعرفـة المقرونـة بالممارسـة وبالقيم الكبرى لم تنضج بعد في مجتمعات تشهد أنماطاً من السلوك السياسي والعنف الذي يصل أحيانا إلى ما يشبه العدمية السياسية التي تفتقد للأهداف ولا تبررها المعتقدات، مثلما يحدث في الانتخابات العربيـة.
يقودنا هذا التصـور غير المكتمل إلى تتبع أشكال التعبير الدائرة حول الممارسات الديمقراطيـة كما بدت بشكل جلي في الانتخابات العراقيـة السابقـة، وفي مقدمات الانتخابات القادمـة والانتخابات اللبنانيـة والمصريـة والفلسطينيـة، حيث يمكن التوقف عند أربعـة مظاهـر أساسية توضح مضمون الممارسـة الديمقراطيـة الراهنـة:
أولها يتعلق بإرادة الناس بممارسة السياسة حيث نجد ان حجم المشاركـة الانتخابية ما زال متدنيـاً. ولا يعبر عن وعي مجتمعي حقيقي بأهمية تمكين الناس من حسم مصيرهم السياسي، ويعبر حجم المشاركـة أيضا عن عدم الثقـة بصناديق الاقتراع وبالنخب السياسيـة التي تتقاتل حولها، حيث أثبتت الانتخابات والاستفتاءات العربية الأخيرة هذا التراجع ووصلت نسبـة المشاركـة في الانتخابات البرلمانيـة المصريـة إلى (28%) فقط.
وبالمعنـى الاجتماعي يمكن إرجاع هذه الواقعة إلى أكثر من قراءة أهمها، انه بالرغم من كون العرب أكثر شعوب العالم انشغالاً بالسياسة، التي تدخل إلى تفاصيل حياتهم اليومية، فهم اقل المجتمعات ممارسة لها; بكلمات أخرى إن الناس هنا لا يملكون إرادة الفعل السياسي وهم فعلياً الأقل ممارسة للسياسة.
ثمة قطيعة واضحة دشنتها عهود من الإقصاء والمنع والاستبداد حيث أهدرت هذه المجتمعات عقودا من عمرها الحضاري بين الكلام حول السياسة من جهة وبين افتقاد ممارسة السياسة من جهة أخرى.
المظهر الثاني يدور حول الدافع وراء المشاركة السياسية كما كشفته موجات الانتخابات العربية الأخيرة والنزاعات الاجتماعية الأولية كما أبرزتها الطائفية اللبنانية، والعرقية في شمال العراق والطائفية في جنوبه، ما دفع آية الله السيستاني آنذاك إلى إصدار الفتوى الشهيرة التي تلزم الشيعة بالمشاركة والتصويت لقائمة بعينها.
والسؤال البارز في هذا السياق هل تعمل الانتخابات على إحياء النزاعات الاجتماعية الأولية بدلاً من الارتقاء بالمجتمع نحو الإصلاح والتقدم، أم إنها تعبر عن مشكلة حقيقية من ميراث عهود الأنظمة السابقة ترتبط بأولوية الاندماج الاجتماعي على التكامل السياسي؟
لو توقفنا عند هذا المفصل التاريخي للعديد من التساؤلات مرة أخرى؛ هل الانتخابات وأدوات الديمقراطية الأخرى تكشف بالممارسة إنها خطوة متأخرة تحتاج إلى حسم إصلاحات أخرى تتعلق بالاندماج الاجتماعي على سبيل المثال؟ وإلا كيف تعمل صناديق الاقتراع في العراق في كل مرة على إعطاء حقنة حياة جديدة لإطالة عمر الاحتلال؟ وكيف نفسر ان الانتخابات المصرية لم تستطع ان توصل الى البرلمان إلا مصريا قبطيا واحدا، بعد ان كان النادي السياسي المصري يموج بالأقباط من برلمانيين ورؤساء حكومات ووزراء وزعماء أحزاب وغيرهم؟
المظهر الثالث لمأزق الانتخابات يخرج من صلب الأزمة الثقافية العربية، ويكشف بشكل واضح مأزق الحيرة والتردد التاريخي في حسم القيم الكبرى في السياسة، وهي أزمة تتجاذبها الأنظمة والمجتمع معاً. وكأننا في كل مرة وبالممارسة نرجع من جديد لاختراع البد يهيات والمسلمات، وهذا الامر لا يتوقف عند حجم توظيف المال السياسي الفاضح في الانتخابات والرشاوى التي انهالت من كل الاتجاهات. بل يشير أيضا إلى جذور ممارسة العنف التي تعبر عن إفلاس ثقافي من نوع آخر بكل أسف.;
أما المظهر الأخير فهو أزمة الخوف المتبادل بين تعبيرات الدولة الدينية والدولة المدنية، والتي عبرت عنها الانتخابات العربية في واحدة من أوضح صورها، نجد خوفا متبادلا من الإقصاء المتبادل باستخدام الأصول الثقافيـة مرة والعمق المجتمعي مرة أخرى، وتبادل أشكال العنف المادي والعنف المعنوي معاً.
في المحصلـة؛ كشفت موجات الانتخابات العربيـة الراهنـة عن حجم ما نحتاجـه في الحياة العامـة العربيـة إلى تعلم السياسيـة، إلى تعلم حسابات الواقع وحدود العقلانيـة والحكمـة والقدرة على المناورة، حيث يثبت الصراع على صناديق الاقتراع بأن ثمـة فارقا كبيرا بين الحديث عن السياسـة والكلام حولها وبين ممارسة السياسة بالفعل .
0 comments:
إرسال تعليق