خلال الأيام القريبة سيجد دعاة الدولة المدنية أنفسهم بين خيارين أحلاهما مر؛ فهذه الفئة العريضة تقف اليوم بين إرث النظم السابقة وبين دعاة الدولة الدينية الذين لم يثبتوا أداء سياسيا فارقا في تجاربهم المصبوغة بالدم والخيال.
وفق علم نفس الجماهير والجماعات، يذهب الناس بشكل جماعي، في مرحلة من مراحل القنوط واليأس، إلى الهروب الجماعي المؤقت من مواجهة المصير، ويرفضون الاشتباك مع الوقائع. وأهم أشكال هذا الهروب المؤقت يبدو في الانسحاب من الاهتمام بالشأن العام، والشعور بالغربة عن الوقائع المحيطة والتطورات القريبة فيما يتدثرون بالصبر ويتعللون بالمزيد من الصبر.
الصبر السياسي الطويل يدخل العامة إلى العمق، وتصبح التفاصيل في صلب الأولويات، ما يغير مضامين الوعي الاجتماعي. وفي هذه اللحظة، أي حينما تصل العامة إلى التفاصيل، تتغير حتما قواعد اللعبة، ولا يعود بالإمكان تمرير التصنيع السياسي للنخب والمواقف، ولا قبول مبررات للأزمة الاقتصادية الاجتماعية والسياسية، ولا إعادة إنتاج الوظائف التقليدية للدولة والمؤسسات والجماعات في العلاقة مع الإقليم والعالم في المجالات السياسية والاستراتيجية.
ربما تكون تلك العبارة التي أطلقها مواطن مصري بسيط على إحدى الفضائيات "أنا زعلان من الشعب" مفارقة تختصر النتائج التي وصلت إليها الأحوال في إعادة انتاج الخراب وأقسى حالاته حينما يأتي الخراب من صناديق الاقتراع التي طالما علق عليها صبر المجتمعات الآمال الكبيرة. ومن المفارقات المؤلمة أن معظم حالات الاشتباك الأهلي في آخر عامين جاءت مفرغة من أي مضمون اجتماعي أو سياسي حقيقي، ما يفسر أنها حالة احتقان توظف لتحريك حالة سياسية.
ثمة طبقات من الثقافة المناوئة للتغيير حفرت عميقا في بنى المجتمعات العربية، صاغتها علاقات القوة والخوف والمصالح والخسائر على مدى ثلاثة أجيال، في المقابل فراغ ثقافي في الجهة الأخرى بعد أن تم تفريغ الطاقة الحية وتقزيم رموزها وتشويههم تارة أو إجبارهم على العزلة والتوبة عن الحياة.
حائرون لا نملك إجابات واضحة لأسئلة الناس، وهو ما يتكرر في هذا الوقت حول ما يحدث في العراق وسورية وليبيا واليمن وغيرها بين حدود المعركة والمقاومة وحدود الحرابة وقطع الطريق والتطبيع مع القتل، حيث فوضى المعرفة أوسع وأكثر قسوة من فوضى مشهد المعركة. فالناس لا يملكون إجابات للأسئلة التي تتردد في ضمائرهم ولا يستطيعون تحديد مواقف مستقلة لأنهم باختصار افتقدوا ومنذ قرون عديدة المعايير والقدرة على إنتاج القيم الكبرى وتجديدها، ما يفسر جانبا من حالة العزلة والهروب والصمت والصبر لا ندري هل هو صبر حقيقي أم صبر زائف؟!
0 comments:
إرسال تعليق