نحن الوحيدون في هذا العالم الذين ما نزال نتحاور حول شرعية قطع رؤوس البشر؛ وما نزال نصغي لنداءات باعة التفاريق في أسواق النخاسة، ونسوغ العودة لأسواق بيع النساء. منذ ألف عام والسجال الدائر حول القيم الكبرى لم يحسم بالدم أو بالكلمة، ولا بكليهما. وبعبارة أبسط؛ لم يحدث التحول الجذري في وعي الناس حيال المجتمع والدولة والآخر والتاريخ، ثم حيال الصراع وقوانينه وأدواته؛ أي لم يحدث انقطاع في طريقة التفكير وإصدار الأحكام وبناء الاتجاهات والمعايير التي من خلالها يمارس الأفراد سلوكهم. بالمحصلة، لم نحقق اتفاقا حول القيم الكبرى التي يتم الاختلاف داخلها.
حالة عتيقة ومملة من الاستقطاب والاصطفافات الهشة؛ فالاتفاق حول القيم الكبرى، قبل التعدد وقبل ثقافة الاختلاف، أنه التأسيس الموضوعي لثقافة العبور نحو التحرر والديمقراطية، وبناء دولة العدل واحترام حقوق الإنسان. هكذا حدث أكثر من مرة في التاريخ. هي القيم الكبرى التي قادت العبور نحو الرأسمالية وبناء الغرب المعاصر؛ أي الاتفاق على ما سمي الأخلاق المسيحية الجديدة أو العقد التاريخي الجديد. وهي القيم الكبرى التي تسير حضارة الغرب منذ أكثر من ثلاثة قرون، في أوقات السلم والحرب. وهي القيم الكبرى بخصوصيتها التي دشنت المشروع الحضاري الياباني المعاصر في جهة أخرى من العالم.
حائرون لا نملك إجابات واضحة عن أسئلة الناس. وهو ما يتكرر في هذا الوقت بشأن ما يحدث في العراق وسورية؛ بين حدود المعركة والمقاومة، وحدود الحرابة وقطع الطريق والتطبيع مع القتل ومرحلة التوحش البشري. إذ إن فوضى المعرفة أوسع وأكثر قسوة من فوضى مشهد المعركة أحيانا. الناس لا يملكون إجابات عن الأسئلة التي تتردد في ضمائرهم، ولا يستطيعون تحديد مواقف مستقلة، لأنهم باختصار افتقدوا، ومنذ قرون عديدة، المعايير والقدرة على إنتاج القيم الكبرى وتجديدها، ما يفسر جانبا من حالة العزلة والهروب والصمت. تلك العزلة التي تدخل المجتمع في قوالب باردة مستنسخة من أزمنة الذات الماضية، أو من أزمنة الآخر الحاضرة. ووفق هذه الآلية، يدار في كل مرة السجال الذي يغتال الحاضر والحاضرين. وهو جذر القصة الكبرى منذ ألف عام؛ حينما كتب الماوردي، المتوفى العام 450 هـ، كتابه "الأحكام السلطانية"، وكتب الإمام الجويني، المتوفى العام 478 هـ، كتابه "غياث الأمم"؛ هو السجال على القيم الكبرى بين الغزالي وابن رشد، وهو سجال طه حسين وعباس العقاد.
ليست وحدها الحركات الجهادية والسياسية الإسلامية التي تعاني العزلة عن التاريخ، بل تشاركها النخب الأخرى التي تنافح عن قيم مسروقة من سياقها التاريخي والمجتمعي. وفوق ذلك، يستمر غياب الناس والمجتمعات. ونشعر في كل مرة بفشل مرير في بناء موقف من حركة التاريخ والأحداث؛ لافتقاد الناظم المشترك، وأرض المعرفة التي تهيئ لتراكم حقيقي يحتمل البناء في معمار العقول قبل معمار الأوطان.
قبل سبعة قرون ونصف القرن، هي نصف عمر الإسلام بالتمام والكمال، لخص ابن خلدون آلية إنتاج العزلة عن التاريخ؛ أي افتقاد القدرة على التغير الاجتماعي والثقافي بأدوات ذاتية. كان ابن خلدون يقرأ ثلاثة قرون خلت قبل عصره من عمر دولة العرب والمسلمين ومجتمعاتهم، شهدت البدايات الأولى لسياق العزلة. وقدم النموذج الذي يفسر دور البنى الهزيلة التي ما توقفت عن إعادة إنتاج التاريخ ذاته، ومنذ ألف عام وهي تعتاش على التناقضات والمصالح الضيقة.
تبدأ دورة العصبية في بناء الدولة في تحالف حماة الشريعة من أهل السنة في الحضر، مع القبائل من أهل البادية؛ حيث توفر هذه الأخيرة المد الكبير من المواهب العسكرية والسياسية. وعلى هذا الأساس، يتكرر دوما تقسيم العمل بين المدينة كمركز للتجارة والحرف، وبين البادية وقبائلها كمصدر للسلطة السياسية. ويتم هذا التحالف وتقسيم الأدوار تحت غطاء يدعمه الدين أحيانا. لكن بدايات الاستقرار وتحول موازين القوى يعملان على تعضيد الحكم المستبد الذي يتنازل عن جزء من سيطرته لصالح مجاميع في الريف والبادية. ومن هنا يتهيأ المسرح لظهور تحالف حماة الشريعة من جديد، المدعوم بالمستودع الهائل من القوة من أهل البادية والريف، والانقضاض على الحكم الفاسد وبناء الدولة الجديدة. وهي دائرة تاريخية لم تتوقف منذ ألف عام.
0 comments:
إرسال تعليق