فجأة، وخارج سياق التوقعات التي لم تكن تنتظر أي مفاجأة في خرائط الحكم في الدولة العبرية، برزت أصوات تتحدث عن تحالف واسع لقوى يسار الوسط. إذ أعلن عن تحالف زعيم حزب العمل إسحق هرتسوغ مع وزيرة العدل السابقة تسيبي ليفني، لخوض الانتخابات معا. وبعدما كانت استطلاعات الرأي تؤكد عودة اليمين بزعامة نتنياهو إلى الحكم مجددا، عادت استطلاعات الرأي، فجأة، للقول إن حزب العمل الإسرائيلي قد يصبح الحزب الأول في البرلمان في حال تحالفه مع حزب "الحركة" الوسطي الذي تقوده ليفني في الانتخابات التشريعية المقبلة.
وفق قراءة خرائط تبادل السلطة في تاريخ الدولة العبرية، فإن عودة اليسار من الأمور الواردة، وربما تكون حتمية في هذه المرحلة. فقد قام اليمين الإسرائيلي بأداء الأدوار المطلوبة وأنجز المهمة. ولا يمكن فهم خريطة الحكم في إسرائيل من دون فهم منطق دورات الحكم التي تحكم هذا النظام السياسي.
فالكيان الذي أسسه العلمانيون، وحكمه اليسار فترة طويلة، وسيطر عليه اليمين المتطرف في السنوات الأخيرة، خضع منذ نحو ثلاثة عقود لفلسفة سياسية تقوم على دورات الحكم وفق المصالح الصهيونية العليا. فالرجال والنساء البارزون، من رموز اليسار والعلمانيين، قاموا بمهمات تبييض وجه إسرائيل في العالم عبر تاريخها، ومن أمثالهم ديفيد بن غوريون الذي أصبح أول رئيس لإسرائيل، ثم غولدا مائير، وأبا إيبان، وعيزر وايزمان، واسحق نافون، وشمعون بيريز، وليفي أشكول، وإسحق رابين، وموشي دايان، وإيهود باراك.
خلال العقود الأخيرة، تبادلت القوى المعتدلة مع قوى اليمين الأدوار في دورات، ضمن استراتيجية تنهض على قيام اليمين بمهام على الأرض، سواء بضم الأراضي المحتلة أو بناء المستوطنات وإعاقة جهود التسوية أو خوض الحروب؛ فيما يأتي اليسار والقوى المعتدلة للقيام بمهام استعادة وجه إسرائيل البراق في العالم، من خلال ما تملكه هذه القوى من قدرات في إدارة حملات واسعة في العلاقات العامة الدولية. حدث ذلك مرات ومرات عديدة. صحيح أن اليمين الإسرائيلي إلى جانب اليسار خاضا حروب إسرائيل معا، لكن من الواضح أن اليسار هو دائما الذي يلعب دور تنظيف ساحات المعارك.
اليوم، استطاع اليمين الإسرائيلي تحقيق سلسلة من الأهداف الاستراتيجية الصهيونية العليا، وعلى رأسها إقرار قانون القومية اليهودية، وأوصل منع حل الدولتين إلى أبعد نقطة يمكن أن يصل إليها، واستمر في بناء المستوطنات بوتيرة غيرت الوقائع على الأرض بشكل صعّب على الفلسطينيين القبول بأي حل، كما استطاع أن يوفر بيئة تمهد لمسألة التقسيم الزماني للمسجد الأقصى. ومن ثم، فقد استنفد هذا اليمين الأهداف الصهيونية المرحلية، في الوقت الذي يشهد فيه الرأي العام العالمي تحولات عميقة لصالح الفلسطينيين، ما يعني عمليا استدعاء اليسار الإسرائيلي لإعادة التوازن لمكانة الدولة العبرية في العالم.
0 comments:
إرسال تعليق