إن المشكلة الحقيقية ليست في رفع رسوم الدراسات العليا بل في الضعف الذي يصل حد الجريمة التي ترتكب في معظم الجامعات الأردنية الرسمية والخاصة باسم الدراسات العليا التي فتحت الأبواب على مصاريعها لمن هب ودب للالتحاق بهذه البرامج التي تضخمت بشكل مفرط وبرسوم دراسية متدنية، لا تصل نصف كلفة البرنامج، ما دفع إدارات الجامعات على مدى أكثر من عقد ونصف العقد إلى التوسع الكمي الهائل في هذه البرامج في سبيل توفير ولو عائد بسيط لسد الالتزامات المالية المترتبة عليها، في ضوء تراجع التمويل الحكومي بالنسبة للجامعات الرسمية ومن أجل فتح أبواب للربح السريع لبعض الجامعات الخاصة.
سيقول قائل إن تعديل رسوم الدراسات العليا يعني أن نوفر التعليم للقادرعلى الدفع، وحرمان المتفوقين الذين لا يستطيعون الدفع، وهذا صحيح. ما يتطلب منظومة متكاملة من الإصلاحات، لا تكتفي بتحصيل كلفة التعليم في هذه البرامج، بل تتجاوزها إلى ضمان جودة مدخلات هذه البرامج وكفاءة إدارتها، وتوفير نافذة تمويلية للطلبة الفقراء غير القادرين على دفع الرسوم.
سنطرح السؤال بطريقة أخرى؛ من الذي يحتل الأولوية في هذه المرحلة إنقاذ نوعية التعليم ومخرجاته التي تعد المدخل الأساسي للتنمية ومستقبل البلاد، أم أن نمنح الأولوية لانتشار التعليم ووصوله لكافة الفئات. الأردن تجاوز مرحلة انتشار التعليم، وإذا لم ينتقل للنوعية فسوف يهدر كل الانجازات السابقة، ثم من قال إننا بحاجة إلى مبدأ الانتشار القائم على الكلف المتدنية في برامج الدراسات العليا؟ وهل هذه البرامج تعد أولوية تنموية بحيث تكون في متناول الجميع، بل إن العرض الكبير والواسع الذي وفرته الجامعات خلال السنوات الماضية يعد شكلا من أشكال اختلالات التنمية، هذا العرض جعل من الدراسات العليا مجرد موضة اجتماعية ونمط استهلاكي وبدلا من أن يكون التعليم أداة للتغير الاقتصادي والاجتماعي أصبح أداة هشة للصعود في السلم الاجتماعي.
وإذا ما ذهبنا الى تحليل مصفوفة تراجع مخرجات التعليم العالي سنجد أن الجامعات الحكومية تواجه منذ أكثر من عقد تحديا محرجا متمثلا في استنزاف الكفاءات الأكاديمية لأولئك الذين استثمرت بهم الجامعات نتيجة برامج الابتعاث في الثمانينيات والتسعينيات وذلك نتيجة تراجع رواتب وحوافز أعضاء الهيئات التدريسية. وحسب دراسة للدكتور أنور البطيخي قبل عدة سنوات وصلت نسبة هجرة الكفاءات الأكاديمية من الجامعات الأردنية 17 % سنويا، وتوقعت الدراسة هجرة وتقاعد نحو 5000 أستاذ جامعي بحلول عام 2015. يحدث ذلك مع توقف برامج الابتعاث في الجامعات بشكل شبه تام. ذلك يعني أن عملية تفريغ نوعي تحدث في الجامعات مقابل عملية إحلال رديئة، حيث توسعت برامج الدراسات العليا بشكل غير منطقي في آخر عشر سنوات تحت وطأة الأزمة المالية وأصبح خريجوهذه البرامج مصدرا رئيسيا لتزويد الأقسام الأكاديمية بأعضاء الهيئات التدريسية.
الذين يعملون في الحقل الأكاديمي يعلمون حجم التردي الذي وصل إليه خريجو هذه البرامج تحت وطأة الضغوط الاجتماعية والسياسية. علينا أن نسأل كم بلغت نسبة خريجي هذه البرامج من أعضاء الهيئات التدريسية في الجامعات بالمقارنة مع التسعينيات، من هنا نكتشف من ذبح من؟ وكيف يذبح التعليم العالي والجامعات تحت هيمنة الشعارات الشعبية الطنانة.
في الوقت الذي يجب أن نذهب فيه إلى إعادة هيكلة برنامج الدراسات الموازية الذي وسع من القبول الاستثنائي وجعل من كليات الطب تعج بالطلبة حتى أصبحت تشبه قاعات العلوم الانسانية في جامعات الدول الشمولية في السبعينيات، علينا أن نطالب بالغاء هذا البرنامج او على الأقل أن لا تزيد نسبة المقبولين فيه على 10 % من عدد الطلبة. في المقابل وكخطوة أولية للحد من الانحدار يجب أن ندرك أن من حق الجامعات استيفاء، على الأقل، الكلفة الفعلية لبرامج الدراسات العليا ضمن حزمة من الإصلاحات التي تكفل قبول من يستحق، فالدراسات العليا ليست سلعة جماهيرية مثل الوقود والخبز.
0 comments:
إرسال تعليق