الخطورة في المشهد المصري تتمثل في أن يصل اللعب السياسي إلى النسيج الاجتماعي، كما حدث في العراق وسورية واليمن وغيرها؛ وأن توظف هذه التطورات من أجل مصالح سياسية في الصراع بين النخب والمؤسسات، وهو التوظيف الذي سيغري بإعادة إنتاجه في كل مرة، ما يعني أن يصل الخراب إلى العمق الاجتماعي.
الوطنيات العربية الجديدة لا تحمل تناقضات مع الثقافة القومية السائدة وحسب، بل ومع فكرة الدولة الوطنية وسلوكها في المجال الحيوي. وهي لا تحمل تناقضات مع الثقافة المشتركة، بل مع أبسط مضامين الصلات الثقافية للعيش في محيط مشترك.
قبل عقد، كنا نتصور أننا أمام بداية نمو ظاهرة وطنيات عربية، تحمل بعض شروط المناعة ضد العنف المباغت، مع إمكانية بروز حركة إصلاحية حقيقية تأتي من الداخل هذه المرة. لكن مسار الأحداث والتحولات السياسية والاقتصادية، ذهب إلى خيبة أمل جديدة. وها نحن نكتشف زيف ظاهرة نمو الوطنيات، وأنها لا تُنتج عناصر بنائية جديدة، بل عناصر دافعة نحو المزيد من الجهوية والفوضى. وما الصراع تحت لواء العشائر أو على الكرة والأندية، إلا أحد التعبيرات عن تراكم هذا الفشل وما ينتجه من اغتراب.
في كل مجتمع عربي، نمت اتجاهات من الردة الاجتماعية. وهي قد تختلف من مجتمع لآخر، لكنها تلتقي في النهاية في تجريف فكرة الدولة، وزجها نحو المزيد من الهشاشة والضعف. ونلاحظ أن الخرائط السياسية والثقافية الجديدة أعادت العشائر والعائلات إلى الواجهة السياسية في معظم دول التحولات العربية، فلم يعد الأمر يقتصر على المجتمعات التي بقيت لوقت قريب توصف بأن العشائر أحد مكوناتها الاجتماعية.
عملت التحولات وأزمات التحديث على إعادة إنتاج العشائرية كنزعة سياسية اجتماعية، في الوقت الذي يتراجع فيه دور العشيرة كبنية اجتماعية. ويكشف هذا الاستنتاج عن عمق أزمة المشاركة، وضعف أدوات الدولة في تنمية مشاركة مدنية إيجابية تقوم على التعدد والتنوع. وفي ضوء ضعف استجابة التحديث السياسي لهذا المنطق، كان من السهل تسييس الجماعات المرجعية الأولية، وهو ما نعيشه اليوم.
تزداد يوماً بعد يوم حالة اليأس والاغتراب السياسي والثقافي في المجتمعات العربية، وتطال الأفراد والنخب ومؤسسات المجتمع المدني على حد سواء، في أجواء من الاختناق المعنوي، وازدياد الشعور باللاجدوى، وتعمق الإحساس بفقدان القدرة على المجابهة مع الآخر. الأمر الذي يحوّل هذا الاغتراب ومشاعر الاختناق إلى عنف نحو الداخل؛ مرة يعبر عنه داخل المجتمعات، ومرة يتوارى خلف هذا النمط من الجهويات أو الطوائف أو العشائر، فلا فرق، المهم أن المصدر واحد.
هذه الأحداث ترفع الستائر عن أحوال المجتمعات العربية في لحظة تاريخية قاسية، تجتمع فيها وطأة الاحتلالات الجاثمة، والاختراقات الأمنية، وفشل التنمية، إلى جانب حالة فقدان الوزن وفقدان القدرة على الفعل الإرادي؛ إذ تقف هذه الوقائع إلى جنب حالة من الرغبة في فرض العزلة والاختناق والتعتيم على الأفراد والمجتمعات معا.
0 comments:
إرسال تعليق