قليلا ما نسمع عن مستوى حالة التثاقف بين العرب والأميركيين. وقليلا ما نقرأ أو نسمع عن جذور العلاقات الحضارية والثقافية بين كتلتين بشريتين تتقاربان في العدد وتختلفان في التاريخ، وتلتقيان أحيانا وتتباعدان أحياناً أخرى في مصادر الثقافة وقيمها. وهما اليوم ما يملأ العالم بصخب الصراع، وهما الأكثر قدرة على نشر اشد المشاعر إثارة، ولا يتورعان عن استخدام أدوات الصراع كافة. وعلى الأرض الأميركية، مارس العرب أول اختراق أمني في تاريخ الولايات المتحدة، وعلى الأرض العربية مارست الولايات المتحدة أول احتلالاتها المباشرة بعد انتهاء الحرب الباردة، فيما لايزال على الأرض العربية، أيضا، أطول احتلال وآخر استعمار قائم في العالم بدعم وإرادة أميركية. قبل أكثر من مائة وثلاثين عاما، تكاملت أول موجة هجرة عربية إلى الولايات المتحدة. حينها، كان ذلك الكيان الضخم المتربع على شواطئ الأطلسي ما زال يغتسل مما لحق به من آثار الحرب الأهلية. وفي ذلك الوقت، تشاء ضرورات التاريخ، وربما أحكام الجغرافيا والحاجة، أن تكون ضاحية منهاتن في جنوب نيويورك هي الحي الذي جذب أول المهاجرين العرب بعد مدينة بوسطن. كانت منهاتن آنذاك، قبل أن تعرف الأبراج العملاقة ومركز التجارة العالمي، تضج بالمطاعم والمقاهي العربية، وتنتشر فيها رائحة القهوة التركية وطاولات النرجيلة، وينتشر في شوارعها الضيقة السوريون واللبنانيون بسراويلهم الطويلة، يبيعون السلع الشرقية، ويضعون على رؤوسهم الطرابيش الحمراء. كانت منهاتن، التي لم تعرف الدمار في تاريخها إلا في أيلول من العام 2001، قبل أكثر من مائة عام ضاحية شرقية، ومن يعود إلى "ميخائيل نعيمة" سيجد المبرر لهذا الوصف الذي أطلق على هذه الضاحية: "سورية الصغيرة". هذه واحدة من مفارقات التثاقف الحضاري بين العرب والأميركيين من جهة، ومفارقات السياسة والصراع من جهة أخرى. قبل ذلك بثلاثة قرون، كان أول اتصال حضاري بين العرب والأميركيين قد قام به التجار العمانيون. لقد ذهب العرب إلى البلاد الجديدة قبل أن تأتيهم، وأول معاهدة اقتصادية بين الولايات المتحدة وبلد عربي كانت مع العمانيين العام 1833، وأول سفينة تجارية عربية أبحرت عبر الأطلسي باتجاه أميركا قادها العُماني احمد بن النعمان، الذي مازالت قاعة مدينة نيويورك تعرض لوحة زيتية له. في حين كان القرن التاسع عشر قد شهد بدايات الاتصال الأميركي بالمجتمعات العربية آنذاك، على شكل إرساليات تبشيرية تأخذ طابع المؤسسات التعليمية والخيرية، ومن بينها الكلية السورية البروتستانتية، التي أنشئت في بيروت العام 1863، وتحولت فيما بعد إلى الجامعة الأميركية، التي تعد واحدا من ابرز صروح التعليم العالي في العالم العربي المعاصر. كان الحجاج والمبشرون والرحالة الأميركيون في نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين يختلفون في نظر العرب آنذاك عن الحجاج والرحالة الغربيين الذين عادة ما وسموا بأنهم كفار أو تجار آثار يريدون أن يسرقوا كنوز الشرق، إذ كان الحجاج والرحالة الأميركيون يحملون معهم الهدايا والعطايا والمنح للسكان المحليين، بغض النظر عن أديانهم، فكانوا أشبه بملائكة يقذف بهم الأطلسي من بلاد ترصف شوارعها بالذهب. كان للأميركيين وحدهم في العام 1882 ما يزيد عن 130 مدرسة متفرقة في أنحاء سورية ولبنان، وهو ما يساوي أو يفوق عدد المدارس والإرساليات لكل من فرنسا وبريطانيا وإيطاليا معاً.ومن المفارقات الأخرى، ان أول كتاب صدر في الولايات المتحدة حول المهاجرين العرب كان في العام 1904، ووضعه مؤلف أميركي يدعى "لوسيوس ميلر" بعنوان "السوريون في نيوريوك العظمى"، يصف فيه العرب بالوداعـة والهدوء والسلام الاجتماعي، موضحاً أنه رغم كون أحيائهم وشوارعهم مكتظة، إلا أن الأميركيين لم يسمعوا صوتهم ولم يحسوا بوجودهم، إذ لم ترتكب في أوساطهم جرائم تذكر خلافا لما حدث مع عناصر مهاجرة أخرى. والمفارقة الأخرى، ان أول مكان تحدث فيه احداث عنف وفوضى بين العرب أنفسهم على خلفية طائفية في الولايات المتحدة كان في العام 1905، أي بعد عام من صدور الكتاب السابق، كانت في حي منهاتن ذاته. ومع هذا، لم يخلص المهاجرون العرب الأوائل من المحددات الثقافية والحضارية التي نقلها الأوروبيون معهم وأسهمت في تشويه صـورة العرب، وبالتحديد الهجمـة التي تعرض لها الإسلام والمسلمون في نهايـة القرن التاسع عشر بفعل السياسات العثمانيـة، التي أسبغت كل ما كان يتردد حول الأتراك على العرب. وبلغ الأمر بالرئيس الأميركي روزفلت خلال زيارته لمصر العام 1910، وهي أول زيارة في التاريخ لرئيس أميركي لبلد عربي، اتهام العرب بالتعصب، وطالب المصريين بالاستسلام والرضى باحتلال البريطانيين على اعتبار إنهم لم يصلوا بعد إلى الدرجة التي تخولهم حكم أنفسهم. وخلال النصف الأول من القرن العشرين، ارتبطت صورة الولايات المتحدة في أذهان العرب بمناصرتها وتعاطفها مع القضايا العربية، إذ أُرسلت العديد من اللجان الأميركية إلى بعض البلدان العربية للتعرف على مطالب شعوبها، ومنها لجنة كراين التي ذهبت إلى سورية للتعرف على رغبات السوريين حول هوية الوصاية الدولية التي يريدون، وأجاب الآلاف آنذاك برغبتهم بوصاية أميركية لا بريطانية ولا فرنسية. وقبل ذلك بسنوات قليلة، نجد ان كاتبا أميركيا من أصول عربية يدعى "ابراهام متر" وضع كتاباً في العام 1919 بالإنجليزية تحت عنوان: "أميركا أنقذي الشرق الأوسط".كل هذه المقتطفات والمفارقات التاريخية تدل على حجم الغياب الثقافي العربي خلال العقود الستة الماضية عن الساحة الأميركية. فقد غابت الأبعاد الثقافية والحضارية، وفي المقابل تكثفت دورة الاقتصاد السياسي البائسة، والمختصرة في حالتي الاحتماء والاستلاب. فالكيانات التاريخية، حتى في لحظات الضعف، تستند بالإرادة الرسمية أو بدونها الى حراك ثقافي حضاري، يذكر الآخر بوجوده، ويوفر فرص حوار قائمة على الندية. فأموال العرب وعوائدهم الريعية وعقولهم المهاجرة وأثارهم ومخطوطاتهم المنتشرة في المتاحف الأميركية لم تؤسس لحالة فهم موضوعي. وهذا ليس بالاكتشاف الجديد، لكن ما يحتاج لفت الانتباه إليه ان السياسة أكلت كل شيء في حياة العرب وعلاقاتهم المعاصرة ورؤية الآخرين له
0 comments:
إرسال تعليق