على المستوى الانساني الصرف لا يلام الكثيرون في تعاطفهم الانساني مع شخص مسن ممدد على محفة طبية وارهقته جلسات المحاكم منذ ثلاث سنوات ، وعلى المستويين التاريخي والسياسي يشكل الحكم خسارة فادحة للشعب المصري الذي ثار في ثورة هزت العالم، وخسارة فادحة للدولة المصرية الجديدة بل ان الحكم يعيد النظام الجديد الى مربع عهد ما قبل الثورات وكأن هذا الشعب لم يغضب ولم يقدم كل تلك التضحيات .
صحيح أن أكثر ما تحتاج إليه مصر، خلال السنوات المقبلة هو الاستقرار، لكن في الوقت نفسه فإن أي استقرار يكتفي بالقوة وحدها سيكون استقرارا هشا، ولن يأتي بالأخبار السارة للمصريين. ولعله من المفيد اليوم أن تنظر النخبة المصرية الجديدة إلى اليوم التالي من زاوية أخرى؛ زاوية بناء دولة لكل مواطنيها، وذلك بالتخلص من الصراع على أجندات الثورات، والانتقال مباشرة إلى مسار بناء الدولة الذي من دونه لن يكتمل إثبات شرعية ما جاءت به الصناديق ، ويبدو ان شبهة تسييس الحكم القضائي الاخير لا تخدم هذا المسار.
فَهْمُ مصر يبدأ من فهم القيمة العليا للتسامح في الشخصية المصرية عبر التاريخ، ومن قوة الاندماج والقرب الاجتماعي. حدث ذلك في مرات كثيرة في تاريخ هذه البلاد. وفهم مصر ايضا يبدأ أيضا من الرغبة في الاستقرار التي تمليها طبيعة التكوين التاريخي والجغرافي لمجتمعات الفلاحين الذي يتجلى في مصر بأوضح صوره في الزراعة والعلاقة بالنيل. وعلينا أن نراجع حوادث القرن العشرين المنصرم التي اتسمت بتحولات واسعة، كان العامل المشترك فيها قوة تماسك النسيج الاجتماعي المصري، الذي خلق "المصرية العميقة" وليس "الدولة العميقة" والمتمثلة في خلطة من الوطنية والقرب الثقافي والتسامح والانسجام الاجتماعي الذي جعل الحراك الاجتماعي بأبعاده الطبقية والثقافية طوال القرن الماضي موجها نحو مصادر التهديد الخارجية، فهذه القدرة الكبيرة على التسامح جزء اصيل في الشخصية المصرية لكن لماذا لا يظهر هذا الامر مع المكونات الاخرى للمجتمع السياسي المصري وهذا سؤال مشروع كيف يبرأ الرئيس المخلوع الذي لديه سجل بأكثر من ثلاثين سنة من الحكم والفساد بينما يبقى الرئيس المعزول الذي لم يتجاوز حكمه الضعيف اكثر من عام .
قيل ان المصريين خلال هذا العقد قد ادهشوا العالم بالثورة الأولى وبالثورة الثانية وما يزالون يدهشون العالم، بينما جاء القضاء بدوره ليدهشهم هذه المرة ! .
0 comments:
إرسال تعليق