القصة أكبر من حادثة "ذهب عجلون" وتداعياتها وما أكدته من ضعف في قدرة صانع القرار الرسمي على صياغة وتقديم رواية رسمية واحدة ومتماسكة وقابلة للتصديق (بغض النظرعن كونها صادقة او كاذبة)، وأكبر من سلسلة الإشاعات التي تطايرت قبل حادثة عجلون وبعدها، وما كشفت عنه من بيئة اجتماعية خصبة قادرة على الانتقال من مجرد الثقافة السماعية إلى الانفعال والفعل؛ القصة تكمن في حجم ما أصاب الثقة العامة وسط المجتمع الأردني من انهيارات وتهشيم.
على وقع الضربات المتلاحقة التي تلقتها علاقة الدولة بالمجتمع نتيجة تراجع الكفاءة العامة للدولة، أخذت الثقة العامة بالتحلل والضغف تدريجيا، فالثقة العامة لا تصنع بين ليلة وضحاها بل هي نتيجة عمل تراكمي وتستند في الأصل إلى عقد اجتماعي عمره عقود طويلة، والثقة العامة تبدأ من الثقة بالأسرة والمجتمع والمؤسسات والسوق وتصل الى الثقة بالدولة.
أول مراحل ومؤشرات انهيار الثقة العامة يبدو في اختفاء الصدقية في الحياة العامة حينما تكذب الحكومات على المواطنين وتسود ثقافة التستر والسرية وتبرز الاختلالات في نظم تدفق المعلومات إلى المجتمع، المرحلة الثانية عنوانها افتقاد الثقة بالقانون وقدرة الدولة على تنظيم العلاقات بين الأفراد والجماعات ما يقود إلى بداية ظهور مؤشرات فرط العقد الاجتماعي وظهور جماعات تنازع الدولة في احتكار القوة. إلى هذا الحد تبقى قوة الدولة هي المسيطرة لكنها ليست الحاسمة فيما تتقدم حالة عدم الاستقرار. في المرحلة الثالثة يتعمق فقدان الثقة بالقانون ويمتد إلى فقدان الثقة بالمؤسسات وبالنظم العامة مثل التعليم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية وتتعمق قوة الجماعات المرجعية الأولية مثل الطوائف والجماعات الدينية والقبائل التي تبرز كقوة شبه منظمة تنازع الدولة في وظائفها الأساسية وأهمها احتكار القوة، في المرحلة الأخيرة تجتمع كل عوامل فقدان الثقة السابقة وتحول الدولة من دولة الأمة إلى دولة العصابة أي الانحلال والزوال.
يمكن أن نجد أمثلة لهذه المراحل متوفرة في شتات الدول العربية بعد مرحلة التحولات الأخيرة، فثمة دول تحولت بالفعل إلى دول عصابات في طريقها إلى الزوال، وأخرى دخلت المرحلة الثالثة وتعصف بها أشكال عدم الاستقرار والفوضى المتعددة، فانهيار الثقة العامة في العالم العربي هو المعضلة الكبرى التي نقلت الأزمة من مستواها السياسي التقليدي الى المستوى الاجتماعي – السياسي المركب.
في الحالة الأردنية يبدو أننا دخلنا المرحلة الأولى وأحيانا كدنا نلامس المرحلة الثانية، فتحت ضربات الأزمة الاقتصادية وضعف المؤسسات وتراجع الأداء العام، لاحظنا خلال السنوات القليلة الماضية كيف تم تهشيم هذه الثقة وإضعافها، حكومات ضعيفة تأتي وتذهب على عجل، تتكون من نخب رسمية ضعيفة في الأغلب منشغلة بتصريف الأمور اليومية، وغير قادرة على فضّ مشاجرة بين عشيرتين، ومجالس نيابية شكلية حوّلت السلطة التشريعية إلى أداة لتوليد المزيد من الضعف فيما تسللت ملامح فقدان الثقة بنظم التعليم والمؤسسات الرديفة.
في العالم العربي أزمة ثقة مركبة ومعقدة؛ نلمسها يوميا في المجتمع تبدأ من الأسرة وتمتد للبناء الاجتماعي المتراخي المزدحم بالاشتباكات والعنف، وتمتد إلى مؤسسات التنشئة الاجتماعية والمؤسسات التعليمية ومؤسسات الإعلام، وتصل الى علاقة الدولة بالمجتمع، فالدولة التي لم تعد تقنع مواطنيها هي في الحقيقة قد استهلكت رأسمالها الاجتماعي.
الثقة العامة هي عنوان الرأسمال الاجتماعي وبداية تحللها تعني بداية خسارة فادحة للرأسمال السياسي للدولة
0 comments:
إرسال تعليق