مفهوم "الدولة الضامنة" لمواطنيها يعكس أحد الوجوه غير الواضحة للعقد الاجتماعي. فالضمانة لا تتوقف عند حدود صياغة العلاقة بين الدولة والفرد والمجتمع، على قواعد الحقوق والواجبات والانصياع والأمن؛ بل إن فكرة الضمانة تتجاوز كل ذلك نحو الإحاطة بمصادر الرضا العام، وتطوير أدوات لمتابعتها، والتعرف عن كثب على كل مصادر الاحتقان، مقابل بناء الاستعداد الثقافي لبناء دولة مدنية والحفاظ عليها. علماً أن الاستعداد الثقافي لا يعني التدخل في الخيارات الثقافية للأفراد والمجتمعات.
الانحياز لفكرة الدولة الديمقراطية الوطنية بآفاقها المدنية الرحبة، من دون وجود إنجازات على الأرض، ومن دون وضوح عام للخيارات أو على الأقل خريطة طريق قابلة للتوافق حولها، كل هذا خلق سلسلة من التحديات، تبدو اليوم على شكل أزمة مركبة ومعقدة، ترجع في عمقها وأسبابها إلى سلوك المؤسسات وسلوك النخب الرسمية، وخياراتهما غير المستقرة وغير الناضجة وغير المسؤولة. بينما يبدو ثقل مخرجات هذه الأزمة في المجتمع وفي تعبيراته اليومية؛ بتراجع كفاءة المخرجات العامة، وسيطرة نمط من الثقافة السياسية الانتهازية، ثم بموجة العنف الاجتماعي والعنف الجماعي، وأخيرا بأنماط متعددة من الاحتجاج والعصيان والتعبيرات المحتقنة والتطرف. وغدا لا أحد يعرف ما تأتي به الأيام.
حتما لا يمكن الأخذ بأن تحولات "الربيع العربي" وحدها تفسر تحولات العلاقة بين المجتمع والدولة. إن الإجابة عن هذا السؤال المركزي يذهب بعيداً في عمق ممارسة المشاركة؛ كيف تم تفريغ قنوات المشاركة التقليدية -التي نقر أنها أدنى من فكرة الدولة المدنية- من دون أن تقدم بدائل ممكنة. فالوجه الآخر للمشاركة هو المسؤولية؛ أي أن يصبح المجتمع شريكاً في تحمل المسؤولية، جنباً إلى جنب الدولة، لا أن يتحول إلى أداة للإطاحة بالتنمية والتقدم والأمن. فعلى مدى العقدين الماضيين، تم تفريغ أشكال المشاركة الاجتماعية والسياسية التقليدية من مضمونها، ولم يتم ملء الفراغ؛ مات من مات ولم يولد جديد، بل تمت إعادة إنتاج أشكال مشوهة منها، وأغلقت أخرى تحت وطأة التحولات الهيكلية في الاقتصاد والسياسة.
كل المجتمعات المتحولة تحتاج إلى مناقشة تاريخية فاصلة، تخلصها من قلق المصير. فالحوارات التي ترتقي إلى صفة المناقشة التاريخية، هي جسر العبور الحقيقي، وهي محصلة صراع أفكار حقيقي يدور بين النخب وقادة الرأي والمثقفين، ويدخل في إطارها حوار مؤسسات، وتصل إلى الشارع وإلى الناس العاديين أحياناً. وفي المراحل الفاصلة وما تتطلبه من إدارة حرجة، يجب أن تكون الدولة حاضرة.
حتى لو انتظرنا مائة عام، وربما أكثر، ستبقى النظم السياسية والاجتماعية والثقافية الراهنة قادرة على إعادة إنتاج نفسها، بينما ستبقى الصراعات تدور على الأسئلة الأساسية ذاتها، ما لم تتمكن المجتمعات من أن تكون طرفا في طرح الأسئلة وفي تقديم الإجابات، وما لم تدخل في مناقشة جريئة وفاصلة.
0 comments:
إرسال تعليق