قبل ذلك بأيام، دب الذعر أيضا في وسائل الإعلام التقليدية والرقمية على حد سواء، بعد إعلان موقع الإعلام الاجتماعي الشهير "فيسبوك" طرح صحيفة إخبارية، تعتمد على قواعد بيانات المستخدمين واهتماماتهم؛ بحيث تقدم لكل مستخدم وجبة أخبار تتلاءم مع اهتماماته وخياراته. وقد جاء هذا في الوقت الذي تجاوز مستخدمو الموقع المليار شخص. وكانت قد انتشرت قبل ذلك بأشهر، أخبار المخدرات الرقمية.
إن السرعة التي تفرخ بها التكنولوجيا الرقمية منتجاتها الإعلامية لا تثير الدهشة وحسب، بل تطرح أسئلة حول مصير مفهوم القوة ومصادرها خلال العقود المقبلة؛ هل هذه الكيانات العملاقة من الشركات تملك بالفعل القدرة على التحكم والهيمنة بهذا السيل الهائل من المستخدمين في لحظة ما؟ أم أن أنماط الاستخدام التي تطرحها الشبكة العنكبوتية حطمت مركزية المعرفة، وبالتالي مركزية القوة التقليدية؛ حينما قامت بتجزئة هذه القوة، فأصبح لكل فرد أو جماعة صغيرة حصة منها (القوة)؟
هناك اتجاهان في العالم النظري يتصارعان في فهم التكنولوجيا الرقمية ومستقبلها، من منظور الهيمنة والديمقراطية. الأول، يقول بالحتمية التكنولوجية. وهو ما يرجع إلى تراث فكرة القرية الاتصالية العالمية، وأفكار عالم الاتصال الكندي مارشال مكلوهان الذي تحدث عن أن "الوسيلة هي الرسالة"؛ بمعنى أن التكنولوجيا الرقمية هي القوة الحقيقية، وهي التي سترسم ملامح المستقبل، وليس المحتوى ولا المضمون الإنساني. أما الاتجاه الثاني، فيقول بالحتمية المعرفية أو الاجتماعية. إذ إن المعرفة هي التي أوجدت التكنولوجيا، وثمة ثورة معرفية مفصلية تغير الحياة والتاريخ تجتاح العالم بعد كل تغيير في الوسائل، ما يجعل المعرفة هي محرك التحولات الاجتماعية الكبرى في التاريخ.
للأسف، فإن صوت الفريق الذي يفسر التحولات المعاصرة بقوة الوسائل، أو بالحتمية التكنولوجية، أقوى من الفريق الذي يدافع عن الحتمية المعرفية والاجتماعية؛ فالأول اندمج بالعولمة والتنميط الذي يدعم حلفاءه في السوق وعالم الأعمال والأموال. لكن كما حدث في التاريخ مرات عديدة، فإن المعرفة ومضمونها الاجتماعي هما اللذان سيحددان مضمون مفهوم القوة في آخر النهار.
قيل إن مطبعة غوتنبيرغ أهم اختراع في تاريخ البشرية، وهذا صحيح إلى حد ما. لكن القوة الحقيقية تكمن في التحولات المعرفية وليس المادية؛ تلك التحولات التي شهدتها العلوم والجغرافيا والطب والاجتماع والاقتصاد والسياسة، وفي المقدمة الاتصال بين البشر الذي قاد إلى ظهور فكرة الدولة القومية، ثم أفكار عصر التنوير والتحولات الديمقراطية والثورة الصناعية. لقد تم فرط مسبحة القوة التي كانت تحتكرها أيدٍ محدودة بين السلطة الدينية والقياصرة والحكام، وتم بفعل هذه التحولات تمكين النخبة من المفكرين والمثقفين والسياسيين من امتلاك حصة في القوة. الأمر الذي يحدث اليوم؛ أن قوة المعرفة تنتقل من النخبة إلى الجماهير والناس. وتقود التكنولوجيا الرقمية هذه التحولات إلى أن تصبح قوة اجتماعية على الأرض، منفصلة عن الآلات والوسائل. والذين يحاولون كبح جماح التكنولوجيا سيدركون، بعد حين، أن التحولات المعرفية المرتبطة بالناس هي القوة الحقيقية التي لا يمكن كبح جماحها.
0 comments:
إرسال تعليق