الأصل في البشر الاعتدال كما هي مقاييس الطبيعة ونواميسها، ويبرز التطرف حالة شاذة نتيجة فقدان الغاية والبديل؛ أي حينما يصل الأفراد والجماعات إلى طريق وحيد أو حينما يرتطمون بالجدار، ما بالك حينما يرتفع الجدار في وجه جيل بأكمله حسب رأي الشاعر الراحل أمل دنقل، هنا علينا أن نلاحظ وعبر مراجعة تجارب التطرف في التاريخ أن الكثير منها صنعها الأعداء، أي أعداء المتطرفين أو من يتخذهم المتطرفون أعداء.
هناك اتجاه تحليلي ينمو بقوة أن صناع التطرف في العالم العربي هم أعداء المتطرفين، ولا يستند هذا الاتجاه إلى فكرة المؤامرة التقليدية، بل إلى الطريقة التي تشيخ فيها الامبراطوريات التي تقود العالم المتحضر في كل عصر وتنتج هذه الظواهر؛ هي حروب القراصنة التي واجهتها روما القديمة، وهي الحروب الدينية والصليبية في العصور الوسطى والفاشية والنازية في القرن العشرين. هذا التحليل قابل للتصديق على المستوى الجماعي، ولكن يبدو السؤال المهم؛ كيف تصبح متطرفا على المستوى الفردي. أيّ حاضنة اجتماعية وثقافية وأي حاضنة اقتصادية تحدث فيها هذه التحولات، وكم تحتاج من وقت لكي تنضج هذه الخميرة؟
بالقدر الذي تحتاج فيه المجتمعات العربية إلى تحليل ظواهر التطرف من منظور اقتصادي- اجتماعي، يصب الاهتمام على مكانة الطبقة الوسطى في هذه المجتمعات وما تعرضت له من تهشيم وتشويه، بقدر ما تحتاج هذه المجتمعات الى إعادة قراءة من منظور ثقافي – سياسي؛ كيف تصنع القطيعة مع العالم؟ وكيف تخلق الهزائم والعجز عن التقدم عقدة مزدوجة عنوانها الماضي والآخر؟ وكيف يصبح التاريخ العبء عائقا يسد في وجه الأجيال الطريق فيما لا أحد يتلفت إلى التاريخ الحافز؟
بمراجعة سريعة للتحولات الدرامية خلال آخر ثلاثة عقود من منظور ثقافي – سياسي نجد أن المشهد لا يكتفي بظهور التنظيمات الدينية وقوتها بل ينطوي على تحولات ثقافية عميقة ومرعبة تعكس ردة ثقافية، إذا ما أخذنا الثقافة بمفهومها الإنساني الشامل الذي لا يحصرها بالطريقة التي يفكر بها الناس، لا بل بالطريقة التي يعيشون بها ويمارسون بها حياتهم اليومية، وفي الدائرة الضيقة ثمة تحولات أسرع، فما كان يقبله المجتمع الأردني على سبيل المثال قبل خمس سنوات لم يعد يقبل به اليوم.
0 comments:
إرسال تعليق