هناك وجهتا نظر تُطرحان عربيا في فهم هذه الخلاصة. الأولى، وبعيدا عن الانفعال والعواطف، ترى أنه لا توجد مكاسب عسكرية مباشرة بالمعنى العملياتي لمعركة غزة. فالقدرة على إيقاع خسائر على المستوى البشري لا تتجاوز 1/ 50؛ بمعنى أن كل قتيل إسرائيلي يقابله 50 شهيدا فلسطينيا. أما بشأن الخسائر المادية، فإن حجم ما لحق من دمار بالبنى التحتية والمرافق والمصالح والاقتصاد المحلي في غزة، يقدر بنحو 70 % من البنى التحتية والمرافق الحيوية، أو ما يعادل نحو أربعة مليارات دولار، بحسب تقرير لوزارة الأشغال في غزة، مقابل 450 مليون دولار هي خسائر إسرائيل بحسب تقرير صادر عن البنك الدولي، وعلى الرغم من رغبة إسرائيل المتكررة في تضخيم خسائرها الاقتصادية بشكل هائل.
وجهة النظر السابقة ترى أن الفلسطينيين لم يذهبوا إلى الحرب بإرادتهم، بل فرضت عليهم. وعلينا أن لا نذهب مع الدعاية الإسرائيلية في تضخيم النتائج؛ صحيح أن إسرائيل لم تحقق جميع أهدافها في ساحة المعركة، لكنها حققت جزءا كبيرا منها، والدعاية السياسية التي تتبع عادة المعارك تهدف إلى استكمال بقية الأهداف التي لم تتحقق في الميدان.
ويتم التدليل على الأطروحة السابقة من خلال محاولة أطراف واسعة من النخب السياسية والمؤسسات الإسرائيلية إبراز الخسائر الإسرائيلية والمبالغة في تضخيمها، من أجل مزيد من الابتزاز الدولي، ومحاولة الدعاية الإسرائيلية إيهام العالم والغرب تحديدا بأن الجيش الإسرائيلي صدم من قوة وتنظيم المقاومة الفلسطينية، بل إن المسؤولين الإسرائيليين يرددون أن "حماس" استطاعت في سنوات الحصار بناء جيش منظم يتجاوز التوقعات. وهو ما ذهب إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بقوله: "إن حركة حماس بذلت جهداً هائلاً من أجل بناء منظومة استراتيجية والجيش الإسرائيلي لم ينجح في تدميرها كلياً في هذه الحرب". وسبقه أحد القادة العسكريين بالقول: "إن حركة حماس نجحت في بناء جيش نوعي وقوي.. وقطاع غزة تحول إلى دولة بنت جيشاً قوياً". هذه الحملة تعمل حاليا للدفع نحو إضفاء الشرعية على مطالب إسرائيل بنزع سلاح المقاومة. وهو الهدف الحقيقي الذي تسعى نحوه إسرائيل، والذي عبر عنه وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، بجعل غزة إقليما منزوع السلاح يدار من قبل الأمم المتحدة.
وجهة النظر الثانية ترى أن المقاومة استطاعت إيقاع خسائر فادحة، عسكرية وبشرية ومادية ومعنوية، بالكيان الصهيوني لم تتوقعها إسرائيل؛ وحتى الخسائر التي وقعت في الجانب الفلسطيني معظمها شهداء مدنيون، بينما المقاتلون من المقاومة لم يتجاوزوا 140 شخصا، فيما كانت خسائر إسرائيل وبالمقاييس الإسرائيلية مؤلمة، وتجاوزت من قوات النخبة ما خسرته في حرب 2006، كما أنها المرة الأولى التي تصل فيها الصواريخ الفلسطينية المنطلقة من الأرض الفلسطينية إلى ثلثي المدن الإسرائيلية.
إن المعيار الوحيد للحكم على المكاسب والخسائر في جولة قتالية مثل التي حدثت في غزة خلال الأسابيع الأخيرة، هو قدرة المقاومة المسلحة على الاستمرار في المقاومة، وتحويل هذه القدرة، سواء خسرت أم كسبت، إلى مكاسب سياسية؛ بمعنى استدامة المقاومة، فالمقاومون لا يحصون جراحهم. هذا هو منطق حروب التحرير والمقاومة عبر التاريخ.
0 comments:
إرسال تعليق