ازدادت خلال سنوات العقد الدعوات والإدراك الأوروبي لأهمية وضرورة المقاطعة في مواجهة التعنت الإسرائيلي، وتحديدا في مسألة الاستيطان. فبالإضافة إلى بعض أشكال المقاطعة التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على المنتجات القادمة من المستوطنات، ثمة تلويح مستمر بالمزيد من أشكال المقاطعة. والأهم من ذلك المقاطعة المدنية التي بدأت تبرز من قبل النقابات ومؤسسات المجتمع المدني في بعض المجتمعات الأوروبية، ومنها نقابة المحاضرين البريطانية، والمعهد البريطاني للمهندسين المعماريين، ونقابة المعلمين الإيرلندية التي تضم 14 ألف عضو. كما سبق أن أعلن اتحاد النقابات البريطاني الذي يضم 58 نقابة مقاطعته للسلع التي تنتج في المستوطنات. ويضاف إلى ذلك مقاطعة رابطة محاضري الجامعات الأميركية، وجمعية الدراسات الأميركية، والتي تضم نحو خمسة آلاف أستاذ جامعي وباحث.
وكما يبدو، فقد تم تفريغ مناورة وزير الخارجية الأميركي، جون كيري. وقريبا، سنقف أمام حالة الإفلاس السياسي من جديد. وبمراجعة خط الصعود والانحدار للمسار السياسي، نلاحظ كيف يتم تفريغ هذه الموجات المتتابعة في حالة اللاجدوى السياسية في كل مرة؛ الأمر الذي يطرح بقوة الأسئلة التقليدية ذاتها حول مستقبل هذه الموجة من السياسة القاسية والمكثفة: فما هو حجم المناورة المتاح أمام صناع القرار العربي والفلسطيني؟ وما هي المساحة المتبقية من الملعب السياسي لهذه المناورة؟
التلويح الجاد بالعودة إلى سياسة حازمة ومتشددة على صعيد المقاطعة الرسمية والشعبية، يعد إضافة مهمة إلى الرصيد الاستراتيجي والسياسي الذي تنتظره تفاعلات وعرة وقاسية قادمة. وهذا النمط من السياسات أو نوايا السياسات، يجب أن يبدأ بالدول التي لا ترتبط مع إسرائيل بمعاهدات سلام، والتي طبع بعضها أكثر من المطبعين، علما أن المقاطعة الاقتصادية لا تتعارض مع المعاهدات الموقعة. هذا وفي الوقت الذي يمكن لهذه الدول الحفاظ على الحد الأدنى من المبادلات السياسية، فإن تفعيل المقاطعة الشعبية يعني الكثير من الدلالات السياسية. فأضعف الإيمان يتمثل في استعادة أدوات الصراع التاريخية، ونفض الغبار عنها في اللحظات الفاصلة، وبالتحديد في لحظات الحسم السياسي والاستراتيجي؛ إذ تحتاج التسويات التاريخية الى استنهاض كل رصيد تجارب الماضي وأدواته.
هناك قيمة سياسية ورمزية هائلة في أن يصدر الإنذار بتجميد جهود التسوية وسحب المبادرة العربية، والعودة إلى سياسات المقاطعة، من إحدى العواصم مثل الرياض أو القاهرة. بمعنى أن سلاح المقاطعة العربي ما يزال أحد الخيارات الاستراتيجية، في موازاة منحة التطبيع. فكما تُطرح جزرة التطبيع الكبيرة في صفقة تاريخية للحل الدائم وليس العادل، يجب أن تدرك إسرائيل أن هناك خيارات أخرى قابلة للاختيار مجدداً. فالمقاطعة الاقتصادية والشعبية هي أداة سياسية بالدرجة الأولى، وليست أيديولوجية كما حاولت مكاتب المقاطعة ولجانها أن تصورها خلال سنوات العقود الماضية تحديداً، حينما أفرغت هذه المقاطعة من مضمونها السياسي، وتحولت إلى صنم مقدس لا ينفع ولا يضر؛ يستثمر في إدارة العراك السياسي الداخلي أكثر من أي شيء.
المقاطعة في الأصل مبدأ سياسي، هدفه المناورة لتحقيق مصالح عليا؛ وهي ليست فكرة أيديولوجية وشعارا يرفع ويصفق له. والولايات المتحدة ذاتها تعد، تاريخياً، من أكثر دول العالم استخداماً لهذا السلاح؛ فهي تقاطع وتحاصر، وتمنع متى ما شاءت وكيفما رغبت، وحسب ما تتطلبه مصالحها.
0 comments:
إرسال تعليق