حينما نتعامل مع السياسة باعتبارها علما، هناك مستويان لفهم هذا التطور وما يرافقه من التحولات؛ المستوى الأول: يسمى السياسة العليا والتى تُعنى بالقواعد الناظمة للعمل السياسي والمؤسسات التي تقوم على تنفيذ تلك القواعد مثل البرلمانات والحكومة المركزية والعلاقات الدولية والاقليمية، والثاني يسمى السياسة الدنيا التي تُعنى بادارة شؤون الناس والمجتمعات المحلية والتعامل مع المطالب، وفي هذا المستوى تتعدد المؤسسات التي تنفذ السياسة العليا على المستوى المحلي، ولكنها تعنى بالدرجة الأولى بالخدمات وتحقيق المطالب. يحدث الخلل وعدم الاستقرار حينما تتراجع قدرة المؤسسات الدنيا عن تلبية المطالب أو حينما تفتقد قدرة إنفاذ القواعد العامة التي توافَق عليها الجميع. في الحقيقة يبدأ هنا عدم الانسجام والابتعاد بين المؤسسات على المستوى الوطني والمؤسسات على المستوى المحلي؛ وهذا يعني أنه كلما عجزت المؤسسات المحلية عن تلبية المطالب، ازداد الضغط على مؤسسات السياسة العليا وصولا إلى تحول المطالب من مطالب خدمية محلية إلى مطالب بتغير قواعد إدارة السياسة العليا.
هنا، علينا أن نراقب في التحولات العربية أن السنوات الأخيرة انشغلت بتغيير قواعد السياسة العليا؛ الدساتير والبرمانات ونظم الانتخابات بينما ما تزال أوضاع السياسة على المستويات الدنيا مهملة، وهي السياسة الثقيلة التي تُعنى بالمجتمعات المحلية والناس بالدرجة الأولى. علينا أن ندرك أن الحديث عن السياسة المحلية وفي مقدمتها الديمقراطية المحلية لم يواكب في الأهمية الحديث على المستوى الوطني، وهنا تكمن المشكلة في أن الناس لا يشعرون بانعكاس التحولات السياسية الكبرى والإصلاحات التي تواكبها على حياتهم، الأمر الذي يدفعهم للمزيد من الرفض والمطالبة بتغيير القواعد العليا للسياسة.
العمق الاجتماعي للديمقراطية يتحقق حينما نخلق توازنا بين السياسة الدنيا والسياسة العليا؛ اي اتساع القاعدة الاجتماعية المؤمنة بالإصلاح والمعتقدة بالديمقراطية طريقا للحل ولتغيير نوعية حياة الأفراد والجماعات نحو الأفضل؛ أي أن نبحث عن عمق الديمقراطية في القواعد الاجتماعية العريضة ولا نكتفي بإدارة الصراع والتوافق بين النخب، بحيث يكون حضور المطالب الديمقراطية ليس مجرد حضور وعمل نخبوي بل يذهب عميقا في المجتمع والحياة اليومية وفي الثقافة الشعبية، ويتجسد في المجتمع المدني الفاعل، فالعمق المجتمعي للديمقراطية يعني التحول الكيفي العظيم الذي يجعل من الانقسامات الاجتماعية الحادة حول الأديان والمذاهب والاثنيات والثقافات الفرعية والجهات والأصول والمنابت والفروع وغيرها حالة من التنوع داخل الوحدة وبالتالي مصدرا للثراء وقوة المجتمع.
علينا أن ندير عقارب التفكير السياسي نحو السياسة الدنيا، نحو دمج الناس في السياسات العامة وتوسيع قاعدة الحوار حول الخيارات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ربما سنكتشف كما يحدث في أعرق الديمقراطيات أن العمل الديمقراطي الذي يقود الإصلاح وينعكس على حياة الناس يحتاج إلى أن تكون قاعات البرلمانات انعكاسا لما يدور في قاعات البلديات والمجالس المحلية.
0 comments:
إرسال تعليق