ثمة استنزاف هائل في البشر والموارد، كما المستقبل، في حروب الطوائف الجديدة، لم تشهده الكتلة العربية الإسلامية، في المشرق تحديدا، منذ أكثر من ستة قرون. بينما ثمة تطبيع عميق مع القتل والموت اليومي المجاني وغير المجاني. في المقابل، ثمة فقر معرفي، يتمثل في الردود الفكرية التفسيرية والمستكشفة لعمق الظاهرة ومآلها، ما يجعل أحداثا أكاديمية وثقافية من هذا النوع تستحق التوقف، بعيدا عن الحمولة السياسية.
هناك ثلاث عبارات التقطها من جلسات المؤتمر، أود أن أشارك القراء بها. العبارة الأولى للدكتور عزمي بشارة، من الجلسة الافتتاحية، مفادها أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال إدارة التنوع السياسي، أي الأساس الموضوعي للعمل الديمقراطي، على أساس طائفي؛ فهذا الأخير ينفي فكرة التنوع السياسي التي يفترض أن تبني المواطنة والدولة المدينة. وهذه الخلاصة التي نتجاهلها في النماذج العربية الجديدة والتقليدية أيضا، هي ما قادنا اليوم إلى ظواهر كارثية، مثل تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، الذي وصفه بشارة بأنه يعود بنا إلى "ما قبل الدولة وما قبل حتى الطائفية المعترضة على الدولة. وهو نتيجة لقاء شديد الانفجار بين السلفية الجهادية والطائفية، وردة كبرى عن التمدن العربي".
العبارة الثانية هي للدكتور محجوب الزويري؛ المتخصص في التاريخ الحديث والدراسات الإيرانية، وتذهب إلى أن ما يقال اليوم عن الحمولة الطائفية للصراع الصفوي العثماني (الإيراني-التركي)، هو في جانب كبير منه دعاية معاصرة، وأن البعد الطائفي في ذلك الصراع التاريخي هو نتيجة وليس سببا، وأنه صراع مصلحي بالدرجة الأولى، بينما لا تمثل إيران المعاصرة "دولة دينية صرفة"، وليس الدين والشعور الطائفي هما ما يحركانها، بل هي دولة قومية بحدود وجغرافيا ثابتة ومستقرة منذ نحو أربعة قرون، وما يحركها ببساطة هو مصالحها القومية قبل أي شيء آخر.
أما العبارة الثالثة التي تستحق التوقف، فهي للدكتور وليد عبدالحي، أستاذ العلوم السياسية؛ وتؤكد أن معظم دراساتنا وبحوثنا التي تناولت الأقليات ما تزال انطباعية، وبعضها يدخل في زحمة الإنشاء السياسي، فلم تظهر بحوث كمية ونوعية تتناول حدود الأقليات وتوزيعها وانتشارها، وحجم تمثيلها وحضورها في كل دولة؛ في المواقع العامة، وفي السلطة، وفي السوق والثروة، بما قد يمنح رؤية أعمق عن حدود وحقيقة الأزمات ذات الأبعاد الطائفية، ومتى تعكس الواقع، ومتى تعبر عن تصنيع مخطط له.
0 comments:
إرسال تعليق