على مدى عقدين من التجريب في الإصلاح الإداري كانت اللامركزية مجرد أطروحة للإدارة المحلية المفرغة من مضمونها الديمقراطي والتنموي، وعلى الرغم من أن هذه الأطروحة لم تجد في يوم ما محاولات جادة للتطبيق على أرض الواقع فإن التنظير الذي يرافقها في كل مرة لم يعتنِ بشكل جدي بما قد توفر هذه الصيغة من بدايات عملية للإصلاح السياسي والتنموي الذي يبدأ من المحليات ويصل إلى المستوى الوطني.
نحتاج إلى تطوير نموذج أردني يدمج بين الإصلاح السياسي والإصلاح التنموي وفق صيغة تتجاوز مفهوم اللامركزية الإدارية بمضمونها التقليدي، وذلك بالانتقال نحو مفهوم الديمقراطية المحلية، أي الديمقراطية التي تمارسها المجتمعات المحلية على مستوى المحافظات وتدير من خلالها مواردها المحلية بكفاءة وبرقابة محلية وتضمن من خلالها قدرات توزيعية عادلة ومستدامة، وتعيد توزيع أنماط القوة وتعيد إنتاج النخب المحلية بأدوات ديمقراطية معاصرة وتجعل من المشاركة المحلية أساس تحقيق المصالح وتحمل المسؤوليات.
الديمقراطية المحلية لا تتوقف عند حدود اللامركزية الإدارية، فالأخيرة ثوب فضفاض يرتديه من يشاء، ويمكن أن يمرر تحته إصلاحات شكلية في هياكل الإدارة المحلية مثل تفويض بعض الصلاحيات أو إنشاء مجالس شبه استشارية منزوعة من القدرة التمثيلية الفعلية إذا ما استمرت التشريعات تسن في مجالس وبرلمانات مركزية، بينما تحتاج الديمقراطية المحلية إلى ثلاثة أركان أساسية؛ مؤسسات تمثيل حقيقية، مؤسسات للديمقراطية التفاعلية أهمها إعلام محلي مستقل، ومؤسسات مجتمع مدني فاعلة.
أمام الأردن فرصة مواتية للدمج بين نوايا اللامركزية الإدارية والديمقراطية المحلية بِبُعديها السياسي والتنموي لتوفير نموذج أردني خالص في الإصلاح يدمج بين الإصلاحات السياسية والتنموية التي تبدأ من مستوى المحليات وتأخذ وقتها في النضوج والرشد، ولعل هذه الصيغة هي الأكثر حظاً في القدرة على الإجابة عن جملة مشتركة من الأسئلة الأردنية القلقة وأهمها:
- الخروج من إرباك ملف الإصلاح السياسي الذي يدور حول نفسه منذ عقدين وذلك بانجاز خطوات عملية على الأرض تضمن عمقاً مجتمعياً حقيقياً توفره صيغة الديمقراطية المحلية.
- الخروج من الحلقة المفرغة للتنمية، حينما توفر الديمقراطية المحلية على مستوى المحافظات أدوات محلية لإدارة النفع العام وتوفر ضمانات جديدة لعدالة التنمية وكفاءة إدارة الموارد وإعادة توطين المجتمعات المحلية، بل وتدشين مجتمعات عمرانية جديدة، الأمر الذي يصل إلى تقليص الفجوة والاختلالات التنموية الراهنة التي تشكل واحداً من مصادر تهديد الدولة الأردنية.
- الخروج من مأزق التكامل السياسي والاندماج الإجتماعي؛ فالديمقراطية المحلية توفر النموذج المطلوب لتحقيق المزيد من الاندماج بالدولة والتكامل في الوظائف والأدوار بين المحليات والدولة، وليس كما يبدو في صيغة اللامركزية التقليدية التي قد تسهم في نزع سيادة الدولة والتقليل من الالتفاف السياسي حولها.
-توفر الديمقراطية المحلية ضمانات حقيقية لحماية الاستقرار المحلي بمضامينه الاجتماعية والسياسية والأمنية، ولعل الدمج بين التنموي والسياسي في إدارة المحليات سوف يقدم حلولا جديدة لعدد من الأزمات النامية والآخذة بالتفاقم على مستوى المحافظات والتي تدل على اختلالات تنموية وأخرى قانونية تطل برأسها بتعبيرات أمنية مقلقة.
- توفر الديمقراطية المحلية حالة صحية بإعادة إنتاج النخب المحلية بالاستناد إلى الكفاءة والإنجاز، حينما يصاغ التنافس محلياً الذي يتجاوز المناطق والجهويات ويعيد توطين معايير الكفاءة والإنجاز في وعي الناس وبما يلمسونه مباشرة في محلياتهم، وبالتالي مد النخبة على المستوى الوطني بدماء جديدة.
الإصلاح الديمقراطي والتنموي الجاد والذي يمكن ان تلمس نتائجه، ويخرج البلاد والمجتمعات المحلية من دوار الحلقة المفرغة يبدأ من المحليات.
0 comments:
إرسال تعليق