في القراءة الراهنة للمسارالتاريخي للشرق أوسطية والمتوسطة وصولاً الى الشرق الأوسط الكبير، نجد أن تغيرا يقودنا إليه مسار الأحداث، يجب القول فيه بأن الجديد في تاريخ الأفكارحول الجغرافيا السياسية للمنطقة هو الاعتراف الضمني بثقل الهوية الثقافية للجغرافيا السياسية المطروحة، وهي الثقافة المعبر عنها بالإسلام؛ فالغرب يدرك تماما أن القوى السياسية المحافظة وأحيانا المتطرفة هي الأكثر قدرة على الحسم في الكثير من الثقافات، وهو ما حدث حتى مع الاسرائيليين؛ وهذا ما يفهم في سياق ارتفاع نبرة "يهودية الدولة" في اسرائيل مقابل بروز الدول والكيانات الدينية وازدحام الشرق الاوسط بها.
كان لدينا ثلاثة مشاريع لإعادة صياغة المنطقة؛ أولها المشروع الأميركي تحت عنوان الشرق الأوسط الكبير الذي يحظى بمباركة ضمنية من قبل إسرائيل، ومعارضة شعبية عربية، ومشروع أوروبي عربي لا يمكن تجاهله يبحث عن الأمن والتنمية والهوية على ضفتي المتوسط لا يحظى بترحيب أميركي ويلاقى باحترام عربي شعبي ومدني وبرود رسمي، أما المشروع الثالث والمعني بذات الجغرافيا فهو مشروع الأصولية الإسلامية حيث يتعدد آباء هذا المشروع في صيغته الاخيرة المفتوحة على احتمالات متعددة.
إن مصدر الصراع التاريخي حول الشرق الأوسط يكمن في إغراء الجغرافيا السياسية وما تشكله من قيمة اقتصادية مضافة لها، وفي كل حلقة تاريخية من حلقات الصراع منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام كانت مضامين وخطابات الصراع تتغير، إلا أن الجغرافيا تبقى ثابتة، منذ أن نشأت الحضارات الأولى في بلاد الرافدين ومصر القديمة، ومنذ أن شهد الشرق القديم أولى المدن وأولى الدول وأول النظم الإدارية وأول المقاييس والحسابات في التاريخ الى غير ذلك، وصولاً الى الفترة الهلنستية حيث تمت صياغة المجد الحضاري لليونان عبر الوفرة التي حققت في مدن الشرق الأوسط القديم، وفي الفترة الرومانية قام الشرق الأوسط بدور رائد في اقتصاد العالم القديم، حيث قدر عدد سكانه آنذاك بحوالي 30 مليون نسمة أي سبع سكان العالم حينذاك، وهي نسبة لم تتحقق مرة أخرى منذ ذلك الوقت؛ يكفي أن نشير إلى أن مصر كانت تصدر الى روما 140 ألف طن من القمح سنويا، وفي العصور الحديثة تتكرر اللعبة التاريخية للجغرافيا الفاصلة في الصراعات أو في التحولات الكبرى، هكذا حدث إبان الفتوحات الجغرافية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وحدث لإمبراطوريات عملاقة انهارت وأخرى بعثت من جديد نتيجة الصراع على جغرافيا الشرق الاوسط، وهكذا حدث في بدايات الحرب الباردة وفي نهاية تلك الحرب.
إذا كانت الحتمية التاريخية للشرق الأوسط أن يضطهد بنقمة الجغرافيا أكثر من أن ينعم بنعمتها فإن الصراع حول الأرض، وما في بطنها والمياه حولها يبقى يأخذ لون الهوية في كل مرحلة، ويبدو أن جميع الأطراف باتت تتعامل في هذه المرحلة مع المكون الثقافي الذي طالما تم تجاهله؛ فالشرق الأوسط الكبير في العيون الأميركية اليوم هو الشرق الأوسط الإسلامي؛ ولكن أي إسلامي. وربما هذا الأمر الأكثر حرجا والذي يحتاج إلى رؤية جديدة وأدوات مختلفة في التعامل معه، وهذا ما سيبرز خلال المرحلة القادمة؛ فآباء الشرق الأوسط القادم كُثر وسط ازدحام الكيانات الدينية والأفكار الغامضة ورائحة الغاز.
0 comments:
إرسال تعليق