واجهت المجتمعات العربية المعاصرة لحظات متعددة شهدت اعترافات قاسية بالهزيمة الثقافية. منها لحظة اعتراف رواد النهضة العربية الحديثة في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، حينما أخذوا علما بمدى الفوات الحضاري عن العالم، واعترفوا ووثقوا هذا الاعتراف بعشرات المؤلفات. وفي لحظة ثانية كانت الصدمة الثقافية محمولة على الهزيمة العسكرية والسياسية بعد حرب 1967؛ فكانت الهزيمة للمشروع الثقافي الذي حملته الحياة السياسية في عقود النصف الثاني من القرن العشرين الماضي.
على كل الأحوال، حملت سنوات عقود ما بعد حرب حزيران 1967، وما أتت به من انكشاف سياسي مدو، نسخة جديدة من التنوير العربي الذي باشر مشروعه في النقد الثقافي للحياة العامة العربية. إذ ازدهر الخطاب الفكري والسياسي العربي طوال العقود الأخيرة بثقافة نقدية جديدة، نالت الحياة السياسية، وفصلت وأطالت في فقه الديمقراطية. كما نال النقد الثقافي المجتمع العربي وأوضاع المرأة وحقوق الإنسان وكرامته، واستغرقت حركة التنوير الجديدة بخطابها النقدي في نقد تفصيلي للتنمية والعدالة وعلاقات الإنتاج.. لكن من دون جدوى.
كانت السنوات الثلاث الأخيرة كاشفة أكثر من نصف قرن مضى. فمشاهد الموت والتطبيع مع الموت وامتهان كرامة الإنسان، تعد في الخلاصة شهادة وفاة للتنوير العربي. إذ دفعت المجتمعات العربية أكثر من نصف مليون ضحية في معارك غير عادلة؛ ولم نشهد منذ عقود طويلة حالة من التطبيع مع التطرف السياسي والديني كما نشهد هذه الأيام؛ إذ يواجه هذا التطرف بحالة غير مسبوقة من اللامبالاة والتطبيع من المؤسسات والمجتمعات والنخب.
علينا أن نتذكر حجم النقمة الشعبية والنخبوية التي انتشرت كالعدوى بعد هزيمة حزيران 1967، والتي حاكمت الثقافة العربية ونقدتها بقسوة، لأنها كانت الحاضنة للقوى السياسية التي أتت بالهزيمة. لكن اليوم لا نجد سوى الصمت والتطبيع الثقافي مع هزيمة قد تتجاوز آثارها ما حدث في حزيران.
إن هذا التحول الخطير في الخطاب العربي المعاصر، يشي بمجموعة من الأنماط الثقافية التي بدأ بعضها بالحضور وبعضها الآخر بالتأكد، وعلى رأسها محاولة تأكيد العجز الشامل وفقدان الثقة بالذات، والشعور المفزع بالتردي واستحالة النهوض، وعقدة الجزع والإحساس بالاضطهاد والدونية. يصاحب ذلك نمط يقدس قوة الآخر ويعلي من شأنها، ونمط آخر معلق بماض لا وجود له.
لقد كانت هذه الأحداث في الماضي القريب تثير دهشة المجتمع، وتخلق عواصف واسعة من الردود والردود المضادة والاستقطاب المتبادل، إلا أن المفاجئ منذ العقد الماضي، ورغم ارتفاع صرخات الدعوة إلى ترسيخ الحريات والديمقراطية والحق في المعرفة والتفكير وغير ذلك من الشعارات الكبرى، هو استمرار غياب إرادة المعرفة القادرة على الفعل.
إن تتبع الإشارات والعلامات التي تقود خريطة فهم الحياة العامة في هذا الجزء من العالم، بأبعادها السياسية والثقافية والاقتصادية، تكشف كم بقيت وما تزال هذه المجتمعات مطحونة بالعوز، ومعزولة يحملها التاريخ العبء، ولم تحمل التاريخ المحفز، فيما بقي التنوير ونخبه بعيدين عن الناس وعن معاشهم وأحوالهم اليومية. فلا لوم للناس إن احتضنوا تنظيم "داعش" أو غيره من القوى الظلامية، وسط هذه الفاقة والعزلة، والشعور بالنقمة والفوات.
0 comments:
إرسال تعليق