فكرة الدولة العميقة، مأخوذة من الأدبيات السياسية التركية الجديدة وتشير بشكل مباشر وغير مباشر إلى وصف حالة خاصة هي الأتاتوركية التي تجمع بين العلمانية والتسلطية والعنصرية التركية ضد الكردية، وهو سياق لم تشهده المجتمعات العربية، بل ما يمكن أن نصف به السياق التاريخي للكيانية العربية الحديثة، يبدو في الكيانية الناقصة أو الدولة الناقصة والمشوهة، فالكيانات التي نشّئِت على شكل أنظمة ملكية ليبرالية قبل الاستقلال السياسي سواء في مصر أو العراق وغيرهما، لم تقوَ على تعميق فكرة الدولة على الرغم مما صاحبها من تقاليد الدول. محنة الكيانية العربية بعد مشروع الاستقلال بقيت أسيرة ثلاثة تيارات أو قوى ما تزال تتصارع إلى هذه اللحظة على المستقبل.
تياران يلغيان مبدأ الدولة الوطنية ولكنهما على استعداد لتوظيفها مرحليا؛ وهما التيار الإسلامي والتيار القومي، والتيار الثالث وهو النخب الحاكمة التي تمثل الأنظمة التي حكمت على مدى ستة عقود في معظم الكيانات العربية تحت عناوين (الدولة الوطنية) وهو تيار جاء عمليا باسم الدولة الوطنية لكنه الأكثر تشويها لها.
محنة الدولة اليوم تبدو في أعلى صورها، حينما خدمت التحولات والظروف الراهنة العودة الى الصراع بين التيارات الثلاثة دون أساس متين لظهور كتلة عريضة من الجميع تؤمن بالدولة الوطنية الديمقراطية وتعمل على تدشينها، ما يكشف حجم فجوة التقدم الاجتماعي والثقافي التي تعاني منها المجتمعات العربية.
اليوم يبدو أن التفاعلات المرتبطة بالدين السياسي في الشرق العربي هي أكبر التحديات التي تواجه هذه المجتمعات؛ سواء كان ذلك في الصراع حول الحاضر والمستقبل بين الدولة الدينية والدولة المدنية أو الصراع السياسي الطائفي المغرق في التوظيف والتعبئة الشعبية؛ بمعنى ان لا مستقبل للديمقراطية ولا التنمية بدون اقتراب اجتماعي وثقافي من هذه العقدة، وكلما تم تسخين حدة الصراع حولها، اكتشفنا حجم تعقيد هذه المسألة ومدى الحاجة الفعلية لحلها.
إن السؤال العربي في زمن التحولات غير المسبوقة، أي سؤال تعثر التاريخ في هذا الجزء من العالم، يحفر عميقا في الثقافة العربية المعاصرة، وفي مدى قدرة هذه الثقافة على بناء مواقف جديدة واتجاهات صديقة لبناء الدولة الوطنية الديمقراطية التي تحسم الخلاف على القيم وتتصالح مع التاريخ ومع الحاجة الى التغيير.
في العالم العربي المعاصر لا توجد دول عميقة، فالكيانات السياسية الهزيلة تذهب ويذهب معها كل ما جاءت به في رمشة عين، لكن ما الذي يبقى؛ الثقافة المجتمعية المعاصرة التي غرستها عوامل تاريخية طويلة ومدد من التجهيل والفقر والعوز والمسكونة بالخوف والوهم ورفض التغيير والشك والريبة والفردانية والانغلاق، وهذه هي قيم الممارسة السياسية العربية المعاصرة، وهو ما يفسر طبيعة الصراعات القائمة حاليا في زمن التحولات.
0 comments:
إرسال تعليق