صناعة الصدقات عبر التاريخ تختلط بالسياسة وبالاقتصاد وبالمصالح والعواطف. وفي الوقت نفسه، ارتبطت صناعة الخير العام بمستوى الثقة وثراء رأس المال الاجتماعي. فحينما ازدهرت الوقفيات الإسلامية في بعض مراحل التاريخ، كانت تدير المستشفيات، وترعى أجيالا من طلبة العلم، وتنشئ الحدائق، وتؤوي عابري السبيل. وتدير الوقفيات في الغرب اليوم أكبر الجامعات ومراكز البحوث في العالم.
قد يقول قائل إن المستثمرين من أصحاب رؤوس الأموال لهم الحق في الاستثمار في أعمال الخير؛ أي أن يقدموا بعض أموالهم للخير، وأن يكون هذا الخير في خدمة استثماراتهم من زاوية أخرى. لكن على الرغم من أن هذه الممارسة مسألة خلافية من منظور أخلاقي صرف، فإننا نجد أن المفاجأة تأتي من أكبر مجتمع رأسمالي في الولايات المتحدة، حينما نعلم أن 78 % من الأموال الخيرية تأتي من الناس العاديين في المجتمع، وليس من أصحاب رؤوس الأموال.
أصبحت صناعة الخير في كثير من المجتمعات، ومنها المجتمع الأردني للأسف، وسيلة لدى البعض للاتجار بمعاناة الناس، واستثمارها لمصالح اقتصادية وتسويقية بحتة، أو توظيفها لأغراض الدعاية الاجتماعية والسياسية؛ ما يجعل هذه الصناعة، التي تعد واحدة من أنبل أشكال العطاء الإنساني عبر التاريخ، تنحرف عن أهدافها؛ بل تصبح أداة وغطاءً يوفران الشرعية لأسوأ أشكال الاستغلال والنهب.
يلجأ أفراد وشركات إلى استغلال صناعة الخير وتحويلها إلى تجارة لأهداف إعلانية وتسويقية بحتة، على اعتبار أن هذا المدخل هو الأقرب للوصول إلى وجدان الناس وضمائرهم. لهذا، نلاحظ كيف يُستثمر العمل الخيري أحياناً لأهداف إعلانية وتسويقية، وهو عمل غير أخلاقي يجب أن تُسأل عنه وسائل الإعلام أولاً، قبل شركات ورجال أعمال يسيرون وفق قاعدة "يجب أن لا تفعل الخير فقط، بل يجب أن يعلم به الآخرون". ويذهب آخرون إلى ذلك بحثا عن الوجاهة الاجتماعية والسياسية أيضا، وفئة أخرى قد تذهب إلى الاتجار بالأفعال الخيرية لتغطية أسوأ أشكال استغلال المجتمعات والفقراء والمنكوبين.
في العالم أمثلة عديدة لأسوأ أنماط هذه الممارسات؛ منها ما فعله آل كابون، أشهر زعماء المافيا الأميركية الذي كانت عصاباته تنشر الرعب والموت والقتل، فيما يذهب هو لحضور حفل خيري ينثر فيه المال. وكذلك زعيم المخدرات الكولومبي، بابلو إسكوبار، الذي يقال إنه قام بتدشين أحياء شعبية لإيواء الفقراء، بينما دمرت تجارته المحرمة شعوبا ومجتمعات بأكملها.
0 comments:
إرسال تعليق