ببساطة أيضا، لم نبنِ قاعدة إنتاجية، لا صلبة ولا هشة، في المحافظات، بعد أن تم تهشيم الإنتاج الريفي والفلاحي على مدى ثلاثة عقود مضت، غيرت الدولة فيها أدواتها ولم تقدم البديل. والأصوات التي تنادي بأن الأردنيين لا يُقبِلون على المهن والحرف اليدوية، هي للأسف أصوات لا تعرف من الأردن إلا عمان.
خلال السنوات الخمس الماضية، تفاقمت ظاهرة الفقر في الأردن، في دليل على فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وما أنتجته من برامج وخطط. ويلاحظ على سبيل المثال، وبالمعطيات الرسمية، أن هذه المرحلة شهدت تصاعدا في أعداد جيوب الفقر؛ من 22 جيبا في العام 2006، إلى 32 جيباً في العام 2008. وفي آخر دراسة رسمية في مطلع العام 2012، وصل عدد جيوب الفقر في المملكة إلى 36 جيبا.
علينا أن نراجع بشكل علمي ونقدي السياسات الاقتصادية والاجتماعية خلال العقدين الماضيين، وسنلاحظ أن كل برامج الإصلاح الاقتصادي قد قدمت باسم الفقراء. فخطط إعادة الهيكلة، وبرامج التحول الاقتصادي الاجتماعي، وشبكات الأمان الاجتماعي وغيرها، قُدمت وسُوغت أمام الرأي العام باسم الفقراء، وأحيانا الطبقة الوسطى؛ مرة من أجل حماية هذه الفئات، ومرة من أجل توفير فرص أفضل لها. لكن دائما، وعلى مدى هذه السنوات، دفع الفقراء ثم الفئات الدنيا من الطبقة الوسطى الثمن الغالي لتلك السياسات والبرامج. واكتشفنا بعد حين أن اليد الخفية لم تكن حريصة على العدالة، وأن الفقراء هم من دفع الثمن وحدهم.
محاولة الدولة الاعتماد على جيوب مواطنيها، من دون أن توظف ثرواتها -أي الدولة- في سبيل بناء قاعدة إنتاج حقيقية وتوسيع قاعدة المنتجين وانتشارها، سيكون قفزا في الهواء من المنظور الاقتصادي قبل المنظور الاجتماعي.
التنمية الريفية، والتصنيع الريفي المعتمد على الإنتاج من خلال شبكة واسعة من أنماط الإنتاج الصغير، هما من أكثر النماذج الملائمة للمحافظات الأردنية. وبناء قاعدة الإنتاج المحلية لا يحتاج إلى اختراع رأس المال ولا الحرية الجديدة، ولا الاتكال على اليد الخفية لكي تأتي بالعدالة الاجتماعية من جيوب الآخرين. وهذا النمط من التنمية يقوم على الإنتاج الفلاحي والتصنيع المحلي، الذي يوفر حدا معقولا من الاكتفاء الذاتي ضمن مجال اجتماعي وفضاء ثقافي عرفه الأردن في مراحل تاريخيه سابقة، وتشهده اليوم مجتمعات عديدة، في أكثر دول العالم تقدماً. وهذا النمط من التنمية هو أيضا الدرع الاجتماعية والثقافية الحقيقية في مواجهة أنماط الاستهلاك الجائرة التي تنهب ثروة المجتمع وتعصف به، وهي الضمانة للحد من استفحال ثقافة الإعالة والعلاقات الريعية الزبونية التي أصبحت سمة لطبقات اجتماعية واسعة.
ثمة قرى وبلدات أردنية غابت عن الخرائط، وأخرجتها التنمية الجائرة من التاريخ أيضاً، فلم تعد سوى خرب بائسة على أطراف دروب ترابية غادرها المشاة وحركة الناس. ولا يتوقف الأسف على مشاهدة عشرات القرى المفرغة إلا من الكهول، حيث صفوف متناثرة من البيوت الحجرية التي دشنت في سبعينيات القرن الماضي، بل ما يدعو إلى أسى أكثر ألما، الكروم والبساتين التي هُجرت وأصبحت خَرِبة تحت وطأة سياسات جائرة، من جهة، وشعور باللاجدوى من جهة أخرى
0 comments:
إرسال تعليق