في هذا الوقت، تمارس الدولة الجديدة الاسترخاء باسم التغيير؛ فهي وحدها التي تسهر على إنضاجه، وهي وحدها التي تحارب قوى السكون والجمود، وهي وحدها التي تمارس التعبئة نحو الجديد والمختلف. يحدث ذلك بالعدة والعتاد اللذين طالما مارسا الاستبداد والإقصاء والمنع والخوف من التغيير والجديد، في حين يغيب الحل الثقافي الذي يقتضي بلورة وظائف جديدة للدولة.
سيبقى تحفيز قوى التغيير داخل المجتمع هو العامل الحاسم الذي يوفر الشروط الموضوعية وإمكانية التأثير وفرصة الفعل. فقد أثبتت التحولات العربية التي قادها الشارع أن المجتمعات العربية أكثر يمينية مما كنا نتصور، وهي اليوم مجتمعات محافظة أكثر من أي وقت سبق، حتى وهي تبحث عن التغيير. وقد أضاع العرب فرص تحقيق الديمقراطية وبناء الإصلاح السياسي مرتين: الأولى، أثناء كفاح الأقطار العربية من أجل استقلالها، حينما أعطيت الأولوية لقضية الاستقلال. والثانية، بعد الاستقلال مباشرة؛ فكان تأجيلها بسبب إعطاء الأولوية لبناء الاستقلال. وفي كل المرات غاب الحل أو المدخل الثقافي القائم على عمق مجتمعي.
أمام التيار النقدي العربي مهمة عاجلة وتاريخية، تكمن في الحل الثقافي، وتقتضي الالتفات إلى حقيقة أن العرب ما يزالون يقفون على مسافة بعيدة من المفهوم المعاصر للدولة، في الوعي والممارسة. بل إن فكرة الدولة في الوعي العربي ما تزال هشة، ولا تملك حضورها في الوعي والوجدان والضمير الجمعي للناس، لأنهم باختصار لم يعتادوا أن يلمسوا آثارها في الحياة العامة.
غياب المفهوم الواضح والصحيح عن الدولة هو الذي يحرمها من فهم مصدر الاستبداد السياسي، وإمكانية الرد الفعال عليه، وبالتالي فكرة الهدم والبناء داخلها. فلقد أدخلت الصدمة التي ولدتها حركة الاستعمار في الذهن العام فكرة خاطئة عن غاية الدولة ووظيفتها التاريخية، حينما حصرت هدفها الأساسي في التعبير عن هوية المجتمع وتحقيقها، وتجاهلت أن وظيفة الدولة الكبرى اليوم هي وظيفة ثقافية بامتياز؛ أحد ملامحها مساعدة الجماعات التي تنطوي تحت لوائها على الاندماج في الوتيرة الراهنة للتطور الحضاري، وتقديم الفرص المثلى لهذه الجماعات لاستيعاب قيم الدولة وآلياتها ووسائلها. والقصد من ذلك القول إن الفكر والممارسة السياسية العربية المعاصرة غاب عنهما إدراك أن الدولة لا تستطيع أن تكون منتجة ومنجزة ما لم تحظ بشرعية تاريخية مستقرة. وليس لهذه الشرعية من مصدر آخر إلا قدرتها على إشراك رعاياها في نمط حضارة عصرهم.
يرى البعض بالنظرة الأولى أن الساحات الثقافية العربية تعج بأدبيات اجتماعية وسياسية وفكرية غنية وهائلة. ثم ندرك بالنظرة الأخرى، أن هذه الفعالية هي ميدان أساسي للسجال الأكثر حدة الذي يتخذ صورة الصراع الحاد بين تيار التغيير وتيار المحافظة. بيد أن هذا الصراع الذي يكاد يشق المجتمع العربي إلى فريقين لا لقاء بينهما، يتحول تدريجيا إلى صراع داخل تيارات فرعية داخل القوى المحافظة نفسها، بتعبيراتها السياسية والاجتماعية والدينية، بينما قوى التغيير الحقيقية تتقهقر.
مرة أخرى، سنجد النظم السياسية والنخب الفاعلة التقليدية في المجال العام في هذا الوقت تتلذذ باسترخاء، ما دامت هي التي تركب موجة التغيير، وهي يسار المجتمع الجديد، من دون أن تكلف نفسها الدخول في عملية تاريخية لتعديل وظائف الدولة التقليدية، نحو البحث عن حلول تراكمية قابلة للحياة، تكمن أساسا في الحل الثقافي.
0 comments:
إرسال تعليق