أي ديمقراطيات تُدشن على أحكام إعدام المئات؟! وأي عقد اجتماعي أو توافق وطني ننتظر أن يُنسج في مثل هذه الظروف؟! حتى في أحلك اللحظات التاريخية التي عاشتها مصر في القرن العشرين الماضي، لم يشهد القضاء المصري مثل هذه الأحكام.
رُوي أنه في أثناء احتدام الحرب العالمية الثانية، ووسط ضربات الطيران الألماني للندن والمدن البريطانية الأخرى، وازدياد أعمال الاحتيال وتجار الحروب، اجتمع أعيان الأمة مع رئيس الوزراء القوي ونستون تشيرتشل، يشكون سوء أحوال البلاد. فسألهم: كيف القضاء؟ قالوا إنه ما يزال بخير. فرد عليهم قائلا: نحن إذن بخير؛ آخر ما يتهاوى القضاء.
فماذا يعني ما يحدث اليوم.
علاوة على أن عقوبة الإعدام بحد ذاتها تعد أسوأ علاج توصلت إليه البشرية في تاريخها بدعوى الاقتراب من العدالة، فإنها تتحول إلى قتل باسم القانون حينما يفتقد القضاء ضمانات العدالة، أو حينما تتحول المحاكمات إلى محاكمات سياسية. لقد أضاعت تجربة التحولات العربية الجديدة العديد من الفرص المتتالية التي كان الشرق العربي الإسلامي ينتظرها منذ قرون طويلة، لحسم علاقة الدولة بالدين، وإعادة بناء دور الإسلام في المجتمع والدولة؛ وذلك نتيجة ردود الفعل المتطرفة للنخب السياسية التي تدّعي المدنية. ولعل مثال الصراع بين هذه النخب وبين الإسلام السياسي ممثلا بالإخوان المسلمين في مصر، يثبت هذا الاتجاه. فقد أدت ردود الفعل المتطرفة إلى إعادة بناء مظلومية جديدة للإسلام السياسي، سوف تشغل الحياة السياسية والثقافية، والعلاقة بين الدولة والمجتمع، لنصف قرن قادم على أقل تقدير.
يبدو المشهد اليوم وقد اكتمل للدخول في حلقة أخرى في إنتاج مظلومية جديدة، أهم ملامحها رواية الانقلاب العسكري، وحرق مقار الإخوان ومطاردتهم وزجهم في السجون مجددا، وأخيرا أحكام الإعدام الجماعية. والأهم اغتصاب شرعية الحكم التي جاءت بها الصناديق، ثم ما يقدم من ترميز للرئيس المنتخب والمعزول في سجنه. كما تخدم هنا الخطوات والأخطاء الكبيرة التي ارتكبتها النخبة العسكرية، وآخرها إعلان وزير الدفاع عبدالفتاح السيسي استقالته وترشحه لانتخابات الرئاسة وهو ما يزال يرتدي البزة العسكرية ذاتها.
ماذا يعني كل ذلك؟
أولا: أننا سندخل لعبة الدوران في التاريخ، عبر صيغة تختصر قضية الظلم والعدالة والاستبداد في الصراع بين طرفين، واستبعاد إحلال حالة اجتماعية وثقافية وسياسية محل حالة اجتماعية وثقافية وسياسية أخرى.
ثانيا: أن خيار الديمقراطية سيبقى أداة من أدوات الصراع بين الطرفين، وليس أداة لحسم الصراع والقبول بالنتائج. بمعنى أوضح، أن الديمقراطية مؤجلة.
ثالثا: تأجيل حسم القيم الثقافية والسياسية مرة أخرى، وعلى رأسها علاقة الدين بالدولة والسياسة.
يبدو أن ما سمي "الربيع العربي" لم يهزنا من الداخل، وكما يجب. كل ما يحدث أننا نصاب بالقشعريرة خجلا من ذواتنا، كلما سمعنا أخبارا من مثل أحكام الإعدام الأخيرة.
0 comments:
إرسال تعليق