"المواطنون الصحفيون" أصبحوا يهزمون الصحفيين التقليديين في لعبتهم. فلطالما تعلم الصحفيون أن الدقة أولاً، ثم السرعة، لكن في البيئة الرقمية للإعلام تحولت القيم؛ فالسرعة تغلب الدقة، ولطالما كانت وسائل الإعلام الاجتماعي أول من ينشر أخبارا مهمة، ليأتي دور الصحفيين المحترفين في إعادة ترميم وصياغة الأخبار من خلال تدقيقها حسب القيم الإخبارية التقليدية، وأهمها الدقة والنزاهة. الجمهور الجديد ينتظر من الصحافة اليوم الإجابة عن أسئلة من قبيل: كيف؟ ولماذا؟ وليس الإجابة عن السؤالين التقليديين: ماذا؟ ومن؟
ثلاثة تحولات تقود المضامين الصحفية الجديدة، وتقود إلى تجديد الصحافة لا اندثارها، وهي: التحول نحو صحافة الأفكار والتحليل، أي الصحافة التفسيرية المهنية؛ والتحول نحو المشاركة الواسعة مع الجمهور، أي توظيف المحتوى الذي يقدمه القراء والمستخدمون؛ ثم التحول نحو تطوير شكل جديد لصحافة الخدمة العامة. وكل ذلك يصب في نموذج اقتصادي مختلف، يدير التنافسية على أسس جديدة من الاحتراف.
"غازيتا فيبورتشا" صحيفة بولندية تأسست العام 1989 من قبل المعارضة المناهضة للشيوعية، وجسدت نموذج الصحافة المستقلة في البلاد، شعارها "نحن لسنا غير مبالين". واليوم، تعد الصحيفة ذات جودة مهنية راقية، توزع نحو 350 ألف نسخة، فيما يزور موقعها نحو 12 مليون زائر في الشهر. وتذهب الصحيفة إلى أن مهمتها تتجاوز مجرد تقديم الأخبار، إلى تقديم إعلام الخدمة العام بجودة عالية، بالاعتماد على البيئة الرقمية، وتطبيقات الإعلام على الإنترنت، من أجل دعم الإصلاحات الديمقراطية وبناء مجتمع منتج، وتوفير منابر للنقاش العام، وإلهام الناس المعنيين بالصالح العام.
المنتديات التي يوفرها موقع الصحيفة على الإنترنت، أتاحت للجمهور مناقشة أكثر من 6 آلاف موضوع، تتراوح من السياسة إلى التعليم والرعاية الصحية والهوايات. وتستضيف منصة التدريب التابعة للصحيفة أكثر من 18 مليون مدون.
منذ سنوات، بدأت "غازيتا" إطلاق حملاتها المطالبة بجودة الرعاية الصحية، وأرسلت أكثر من مئة صحفي لتقييم أقسام الولادة في المستشفيات. لكن بعد سنوات، اكتشفت الصحيفة أن التكنولوجيا الجديدة على الإنترنت قد تختصر المسافة، وتحسن من جودة الأداء؛ فرسالة واحدة من إحدى الأمهات اللواتي أنجبن طفلا في واحدة من تلك المستشفيات، يمكن أن تخبرك أكثر من كل الصحفيين. وبالفعل، ففي العام 2006، أطلقت الصحيفة حملة واسعة عبر الانترنت لجمع معلومات وقصص من المواطنين عن الخدمات الصحية، فحصلت على حوالي 40 ألف رسالة وتقرير عن أحوال أقسام الولادة في عشرات المستشفيات، في أكبر توثيق لأحوال هذه المرافق الصحية في تاريخ البلاد. وعملت الحملة على إحداث تحولات نوعية في الخدمات الصحية.
كذلك، تم تطوير منصة على موقع الصحيفة الالكتروني للمعلمين، لتبادل الخبرات. بعد ذلك، يقوم المعلمون بوضع سيناريوهات لدروس متعددة الوسائط. وقد استهدفت هذه الحملة الوصول إلى 7 آلاف مدرسة في العام 2010. وهناك نحو 17 مليونا أو 46 % من البولنديين يعانون من زيادة الوزن. وفي ذلك العام، قام تسعة من الصحفيين والعاملين في "غازيتا" بالإعلان على الملأ، من خلال موقع الصحيفة الالكتروني، بأنهم يتبعون حمية خاصة، ودعوا القراء إلى الانضمام إليهم، وطورا منصة الكترونية لهذه الغاية. وفعلاً، انضم إليهم 21 ألف شخص، أسسوا شبكة لمراقبة الوزن.
هذا مثال واحد للصحافة الجديدة، من بين مئات الأمثلة للنجاح؛ مقابل أمثلة أخرى للفشل، تُعد على أصابع اليد الواحدة.
0 comments:
إرسال تعليق