تتحدث الأرقام الوطنية عن معدلات ومؤشرات متقدمة في مجالات التنمية الإنسانية تفوق مثيلاتها في مجتمعات مجاورة، وهذه حقيقة تجعل المرء يعتقد أن البلاد تقف على عتبة مرحلة الانطلاق بعد أن تخلصت من كثير من خصائص المجتمعات التقليدية، وحتى المجتمعات المتحولة. إلا أن مساحة التفاؤل تتراجع وتضيق أمام ظواهر أخرى ترتبط بالنتائج الاجتماعية لبرامج وخطط الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، وبرامج التنمية والاندماج المتسارع في الاقتصاد العالمي. صحيح أنه لا مكان في هذا العالم للمجتمعات النامية إلا بمواجهة التحديات الاجتماعية في بعدها الاقتصادي، وبالمنطق ذاته الذي يدشن تحولات جذرية تشمل تحرير التجارة العالمية والانفتاح الاقتصادي والتوجه نحو إقامة التكتلات الاقتصادية، لكن كل الميزات التي يتحدث عنها الفكر الاقتصادي الليبرالي في لحظته التاريخية الراهنة يمكن أن تتحول إلى وبال اجتماعي يعصف بالمجتمعات الصغيرة ويهدد وجودها، في ضوء غياب الشروط الموضوعية المرتبطة بعلاقات الداخل بالداخل أولاً، وعلاقات الداخل بالخارج ثانياً. إذ تتحول عملية التحديث إلى موجات من العصف التدميري التي تعمل على ازاحة البنى الاقتصادية التقليدية، وتعجز عن إيجاد بدائل حقيقية وفاعلة مكانها، وتخلق ثنائيات جديدة تعصف هي الأخرى بالأوضاع والبنى الاجتماعية. وعلى حد تعبير ألان روسيون، تصبح النخب ضد الجماهير، والدولة ضد المجتمع، والحداثة المستوردة ضد القوى الحية القابلة للتغير، وتغترب نوايا العقلانية والعلمانية، وتموج المجتمعات بصراعات لا تاريخية، أي صراعات لا تحمل إمكانية التغير والتحديث الحقيقي. تقودنا تلك الخلاصات النظرية إلى أمثلة من الخلاصات الوطنية، التي كلما اقتربت نحو حدود التفاؤل ترجع للشد عنوة إلى الجهة الأخرى، مما يطرح أسئلة جديدة حول مؤشرات التحديث، وهل تبني تراكماً وطنياً حقيقياً في الاقتصاد والمجتمع والثقافة؟ وعلى سبيل المثال، ففي مواجهة أزمة إلغاء الدعم الحكومي عن المشتقات النفطية نتيجة استمرار ارتفاع أسعارها العالمية، لم نتوقف عند أبعاد الظاهرة الاستهلاكية الوطنية وعلاقتها بخلاصات البرامج والخطط الإصلاحية الاجتماعية والاقتصادية! إذ ثمة انفجار استهلاكي -قليلا ما يشار إليه- تَعمق بشكل مضاعف بفعل برامج الإصلاح السالفة خلال السنوات القليلة الماضية؛ يكفي أن نلاحظ ان الأردنيين يدفعون فواتير اتصالات تفوق معظم دول العالم، وتصل حسب أرقام جمعية حماية المستهلك إلى 16% من الدخل! وفي أرقام أخرى، فهي تتجاوز ربع الدخل! وهذه ظاهـرة لم يكن يعرفها الأردنيون منذ عشر سنوات. قبل سنوات قليلة، كنا نتفاخر بأننا أدخلنا إلى موسوعة جينز للأرقام القياسية اكبر شارع تستخدم فيه شبكة المعلومات (الإنترنت) في العالم، لنكتشف أن اكبر استخدام للشبكة لدينا هو لأغراض متواضعة وللدردشات، وهو نفس المثال حينما سجلنا رقماً قياساً في استخدام الرسائل القصيرة عبر الهواتف الخلوية! وقس على ذلك عشرات الأمثلة، من بينها الفوز بقصب السبق في واحدة من أعلى نسب المدخنين في العالم، إذ تصل نسبة هؤلاء في الأردن 67% بين الذكور مقابل 22% في الولايات المتحدة. وفي أيام هذا الصيف كان عدد الأردنيين الذين يغادرون الحدود الشمالية بهدف السياحة في الدول المجاورة يتجاوز 36 ألف مغادر في بعض الأيام، لكنهم لا يفعلون شيئا أكثر من قضاء بضعة أيام في فنادق رخيصة. ظاهرة الانفجار الاستهلاكي في مجتمع يترنح بين الفقر والبطالة تفسر احد مصادر الانتحار المتزايد للطبقة الوسطى المنخرطة في سياق الاستهلاك الذي يفوق القدرات الإنتاجية، مما يجعل هذه الطبقة عرضة للانهيار السريع والمؤلم. والتحديث المفرط بالاغتراب عن الذات، والذي يلغي الخصوصيات المحلية ويقلل من قيمة الإنتاج وأثره في تحقيق الذات، يجعل الفئات الطفيلية التي ترتع بالثراء السريع والمفاجئ قدوة في سلوكها لفئات عريضة من المجتمع، فيما لا تزال مؤسسات الدولة التي تتحدث عن شد الأحزمة والدخول في زمن الزهد الحكومي غارقة هي الأخرى في الإنفاق الاستهلاكي الحكومي الذي يتجاوز 20% من الناتج المحلي الإجمالي. مواجهة أزمات الإصلاح الاقتصادي والسياسي والاجتماعي لا تتحقق إلا بالمزيد من الإصلاح، ولكن هذه الخلاصات العاجلة، وفي مواجهة كل أزمة إصلاحية، تعود بنا دائماً إلى المربع الأول، وكأن المطلوب إعادة اختراع قوانين التغيير مرة أخرى. لابد من الانتباه إلى معضلة أساسية ينتابها الغموض، فالمشهد أمام الناظر يظهر أن قوى الإصلاح تبدو اليوم وكأنها الجلاد والضحية في نفس الوقت
0 comments:
إرسال تعليق