أعاد الانسحاب الإسرائيلي الأحادي من غزة الذي نفذته أطراف في اليمين الإسرائيلي التفكير في ماهية الدولة العبرية ومستقبلها ومدى قدرة هذه الدولة على العيش كدولة عادية بدون عقد او أساطير او خيال سياسي مريض، تأتي هذه الأسئلة في أجواء هجوم إعلامي إسرائيلي منظم يهدف إلى إتمام موجة تطبيع جديدة مع بلدان عربية وإسلامية, وعلى حد تعبير وزير الخارجية الإسرائيلي سليفان شالوم قبل أيام فان إسرائيل قريبة جدا من تطبيع علاقاتها مع عشر دول عربية وإسلامية على الأقل، في الوقت الذي تتباهى فيه إسرائيل باللهفة التي أبداها حكام موريتانيا الجدد بالتأكيد على علاقاتهم مع إسرائيل وبأنه لن ينالها التغيير. وجاءت الأحداث سريعا لتثبت ما ذهب إليه الوزير الإسرائيلي في التقارب الإسرائيلي الباكستاني الذي ترعاه تركيا حاليا. في التسعينيات من القرن الماضي وفي أجواء هجوم السلام العربي- الإسرائيلي نشط التيار الإسرائيلي المعروف باسم (ما بعد الصهيونية) والمكون من حركتين فكريتين أساسيتين هما: الحركة الفكرية للمؤرخين الجدد والحركة الفكرية لعلماء الاجتماع النقديين، حيث حاول كل منهما تقديم قراءة جديدة قيل أنها أكثر موضوعية لتاريخ الدولة والصراع مع الفلسطينيين والعرب وروايات الحروب وتاريخ الشتات وغير ذلك من موضوعات. وفي الوقت الذي حاول فيه بعض المثقفين العرب إظهار هذه التيارات بأنها تحمل بوادر ذاتية على حركة تغيير تشهدها إسرائيل في التحول نحو نموذج الدولة العقلانية او العادية، بما يعني تجاوز الأفكار الصهيونية ومشاريعها التاريخية، أثبتت السنوات القليلة الماضية ضآلة حجم وتأثير تيار "ما بعد الصهيونية" وانه تيار لا يتجاوز بعض الأوساط الأكاديمية الضيقة, ولم يصل بشكل جدي إلى الدوائر الرسمية الاسرائيلية. وفي الوقت الذي خاضت فيه إسرائيل معركة إعلامية وثقافية في سبيل الحصول على تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني وإلغاء الفقرات التي كانت تتحدث عن تدمير إسرائيل. لم نشهد مبادرة عربية رسمية او حتى مبادرات مدنية تطالب إسرائيل بالتخلي رسميا عن المشروع الصهيوني وعما تحمله الصهيونية من أفكار ومنطلقات تتناقض مع حقائق ما يسمى بثقافة السلام وفي مقدمتها الأفكار التي تتحدث عن ارض إسرائيل التاريخية وأفكار التوسع والعنصرية ولغة الاستعلاء. وهي الأفكار المنتشرة في أدبيات الحياة السياسية الاسرائيلية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وترددها المناهج التعليمية الاسرائيلية منذ وجودها وتنتشر في البناء المعنوي والرمزي للدولة التي لا توجد لها وثيقة أساسية مرجعية من قبيل الدستور او القانون الأساسي ولا يوجد لها حدود دولية واضحة ومحددة وموثقة. صحيح أن تخلي إسرائيل عن قطاع غزة وما سبق من تخليها عن جنوب لبنان قد هزت تصور الإسرائيليين لمستقبل دولتهم حيث تزامنت هذه التطورات مع انتحار بطيء لخطاب تيار اليسار الإسرائيلي (رابين، بيريز، بيلن) او ربما بتعبير أدق انتهاء دوره المرحلي، فالطريق إلى الشرق الأوسط الجديد كانت مغلقة وموحشة والحدود السياسية الآمنة حولها (شارون، نتنياهو) إلى جدران عنصرية بشعة وأسلاك شائكة وعوسج حزين حول قبر رابين. ومع أن هذه الحقائق تجعل تصور الإسرائيليين للذات في ضوء هذه المتغيرات يتصف بالإرباك والتشتت وتراجع القناعات فإننا نجد على الصعيد الداخلي الأمر أكثر تماسكا عكس ما تردده بعض مقولات الخطاب السياسي العربي الذي طالما راهن على ضعف الجبهة الداخلية في إسرائيل. لكن ما الذي حدث خلال السنوات العشر الأخيرة داخليا؟.. لقد استجابت إسرائيل داخليا لتيارات العولمة وما بعد الحداثة، حيث هضمت الجدل الذي دار حول الصهيونية وما بعد الصهيونية والهوية وعلاقة اليهودي بالدولة والقيم الجديدة، أثبتت هذه الأجواء قدرة إسرائيل على الاستجابة للتيارات الجديدة، ولم تلجأ إلى إجراء تعديلات جذرية في بنية الأيديولوجية الصهيونية وموقعها من الدولة؛ وكلما ارتفع صوت الجدل حول هذه القضايا يعود في النهاية إلى الهدوء، ليس مهما لدى الإسرائيليين في هذا الوقت إن كانت دولتهم ترجع إلى دستور أم لا, وليس من الضروري تحديد تعريف دقيق لهوية الدولة ومواطنيها، فثمة برنامج عمل إسرائيلي يحدد مركزيا في كل مرحلة ويدار الجدل من خلاله. في الجهة المقابلة بقي العرب مطالبين بتطبيع علاقتهم مع إسرائيل وتعديل خطاباتهم السياسية والثقافية والإعلامية دون أن ترتفع أصوات جادة لإحداث تغيرات حقيقية لدى الاسرائليين؛ هكذا يبدو أنه لا وجود لضغوط حقيقية تحمل ممارسات تاريخية تدفع إسرائيل للتفكير بعبء الأيديولوجيا وتطرح سؤال التخلي عنها، كل ما يحدث من انسحابات يدور في دائرة التكيف مع حقائق الديمغرافيا والأمن. يعتقد محمود أمين العالم أن تمسك إسرائيل بالصهيونية يرتبط جذريا بعلاقة الرأسمالية العالمية بالصهيونية ولن يتم الانفكاك بين الدولة والأيديولوجيا إلا بانفكاك في العلاقات والمصالح والقيم بين الصهيونية والرأسمالية، بينما يرى سعد الدين ابراهيم إن قابلية الصهيونية للاستمرار مظلة أيديولوجية لإسرائيل في المستقبل تتوقف على تعريف الصهيونية ذاتها ويجيب سعد الدين ابراهيم في حوار أجراه الكاتب معه قبل خمس سنوات على سؤال هل يمكن أن يكون هذا المجتمع غير توسعي بنعم، حيث أدرك الإسرائيليون بان التوسع لا يمنحهم الاستقرار والأمن والاستمرار والشرعية وما زال الكلام له، لذا بدأوا بالانسحاب وهم في موقع القوة وستستمر الانسحابات, ولكنها في الأغلب تتطور في ضوء ما يحدث على الجانب العربي، أما عبدالمنعم سعيد يؤكد في حوار آخر أن الصهيونية ستبقى لفترة قريبة من القرن الحالي قلقة من عدم القبول في الأوساط الشعبية والثقافية العربية. بالفعل، إن ما يقلق إسرائيل ليس القبول العربي الرسمي وما أشار إليه مؤخرا شالوم حول موجة التطبيع الجديدة ما هو إلا تحصيل حاصل ومسألة وقت لا أكثر أما القبول المجتمعي العربي والإسلامي سيبقى المأزق التاريخي لإسرائيل وحتى بعد انسحابات إسرائيلية أخرى سيبقى هاجس الصهيونية ومشروعها التوسعي وقيمها الاستعلائية قائما في الوعي العربي إذ ما سارعت إسرائيل إلى إنجاز خطوات حقيقية على الصعد السياسية والاجتماعية والثقافية تحدث فك ارتباط تاريخي مع الأفكار الصهيونية العدائية يصاحبه تقدم حقيقي في تنفيذ قرارات الشرعية الدولية. ستضيف إسرائيل إلى خبراتها السابقة بان التطبيع الرسمي لا قيمة حقيقية له إذا لم تصاحبه خطوات على الأرض وفي عقل الدولة؛ في هذه اللحظة يبدو المشهد من زاوية أخرى بأن الحلمين الإسرائيليين؛ ارض إسرائيل الكاملة وسلام الشجعان قد تحطما، بمعنى آخر؛ إن الصهيونية اليوم تقف على حافة مفترق طرق جديد لا ندري أين سيذهب بإسرائيل هذه المرة
0 comments:
إرسال تعليق