يقال في الأسطورة العراقية القديمة ان الله ضرب أهل "بابل" على ألسنتهم، فأصبح كل منهم يتحدث لغة مختلفة، واختفت اللغة المشتركة وأداة التفاهم التي يتواصلون بها، وتقطعت الجسور بينهم؛ فلا هم يفهمون بعضهم بعضا ولا العالم يفهمهم! لم يصل العراقيون اليوم هذا الحد، على الرغم من اختلافهم الكبير واتساع الفجوة فيما بينهم، مما جعل لغة التفاهم صعبة، والأفق السياسي شبه مغلق، الأمر الذي سيجعل مهمة أمين عام الجامعة العربية في بغداد محرجة، وربما تحتاج إلى جهد يشبه المعجزات في ضوء ما ستسفر عنه تداعيات الدستور في الأيام المقبلة القادمة.ومع هذا وذاك، فالسياسة وبناء التحالفات والمصالح لا تعرف المعجزات، إذ تقف مهمة موسى عند حدود الانفراج، اذا ما استطاع إيجاد لغة مشتركة يلتقي حولها العراقيون. وبعد غياب طويل للعرب عن الساحة العراقية، نجد ان المهمة التي يسعى إليها أمين الجامعـة العربيـة -وهي المصالحة الوطنية العراقية- لم يوافق العراقيون حتى على مسماها! إذ ترى أطراف في العراق ان بلادهم تحتاج بشكل أدق إلى وفاق وطني يحفظ استقرار البلاد وأمنها ووحدة الأرض والشعب العراقي، وأنه ليس هناك صراعات داخلية تحتاج إلى مصالحة. وخلال الأيام القليلة الماضية التي تداعت خلالها الأخبار حول المهمة العربية الجديدة، أصبحت زيارة موسى والوفد الذي سبقه، كما المبادرة العربية بأكملها جزءا من المشكلة بدل ان تكون جزءا من حلها، بحيث ازداد الاستقطاب السياسي حول موعد الزيارة وجدواها وخلفياتها.وبعد مرور عامين ونصف العام من صمت الجامعة العربية، يعيد الاتجاه الواسع الذي يرفض التدخل العربي في الملفات العراقية إنتاج وتدوير مواقف الجامعة من القضية العراقية لسنوات قبل الاحتلال، وموقف الأمين العام الحالي الرافض لمبادرة الشيخ زايد، رئيس دولة الإمارات العربية الراحل، والتي طلب فيها إلى الرئيس العراقي السابق التخلي عن السلطة قبيل الحرب بأيام، لتجنيب بلاده والمنطقة ما نحياه اليوم. وعلاوة على ذلك، هناك تباطؤ الاعتراف بالمسار السياسي الجاري في العراق؛ فبينما سارعت الجامعة إلى الاعتراف بالحكم الجديد في موريتانيا، بقيت تتعامل بتثاقل مع الحكومة العراقية! ويقال أيضاً ان العراقيين طالبوا الجامعـة سابقاً بالتدخل في التداعيات الداخلية للعرب، ولكن دون جدوى.أما الجامعة العربية، فماتزال تؤكد ان الجهد العربي في العراق متواصل لم ينقطع، وتدلل على ذلك بأنها أول من اقترح عقد مؤتمر للمصالحة العراقية خلال مؤتمر دول الجوار الذي عقد في شرم الشيخ، وانها أول من فتح الباب أمام العراق الجديد حينما قررت عدم ترك معقده شاغراً، الأمر الذي يسهل حالياً عملية اندماج العراق في المجتمع الدولي، وتبوؤ مكانته في الأمم المتحدة.وللحقيقة، فان السياق التاريخي للمبادرة العربية يأتي في أجواء يزداد فيها المشهد العراقي صعوبة وتعقيداً، وتزداد فيها مشاعر الاحتقان بين الفرقاء، بانتظار ما ستؤول إليه نتائج الاستفتاء على الدستور من تطورات لاحقه، في الوقت الذي تأتى فيه المبادرة وزيارة موسى مع بدء محاكمة صدام حسين العلنية، وما تعنيه من تصاعد مشاعر أخرى مضادة وأحياناً متناقضة.بالفعل، ربما تأخرت المبادرة العربية، وربما لم تختر الظرف السياسي والأمني المناسب، كما أنها قد لا تكون اهتدت إلى مفاتيح الخطاب السياسي الملائم الذي يوفر لغة يفهمها الفرقاء كافة... لكن من بين الأسئلة المشروعة التي تتطلب الإجابة، السؤال حول موقع هذه المبادرة في الاستراتيجية الأميركية في العراق والمنطقة، وبالتالي دور الولايات المتحدة في تحريك المدخل العربي في هذا الوقت، والدور المناط به (المدخل العربي) وحدوده، والى أين يجب ان يصل؟ لقد اعتمدت الولايات المتحدة طيلة الثلاثين شهراً الماضية التي قضتها كقوة محتلة على المدخل الإيراني، أو لنقل إنها صمتت على الحضور الإيراني الواسع، بحيث تفاقمت حدة التوترات الاثنية والطائفية بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ العراق، وأدى بالتالي إلى فتح أبواب احتمالات متعددة حول حدود ومستقبل المدخل العربي للاستراتيجية الأميركية في العراق، وما إذا كان يحمل إشارة إلى وضع العرب مقابل الإيرانيين في العراق، وصب المزيد من الزيت العربي على النار الإيرانية المشتعلة على الأرض العراقية؟ ربما كان من المفترض بالعرب التحاور مع الإيرانيين والأميركيين علناً، وهذا هو التمهيد الموضوعي لأي جهد سياسي جدي يرمي إلى إخراج العراق من سياسات إدارة الكوارث الراهنة، وبدون ذلك سيبقى جهد عمرو موسى والجامعة العربية العتيدة في دائرة حديث أهل البابل القديم
0 comments:
إرسال تعليق