يردد طلبة كليات الإعلام عادة قصة افتراضية، من زمن الحرب الباردة، للتدليل على نسبية معايير الأخبار، وبأن الحديث عن المصداقية وعدم التحيز والدقة وقيم المهنية الأخرى ليست وحدها التي تحقق عدالة الأخبار: فقد أراد السفيران الأميركي والسوفييتي في باريس الخروج من البروتوكول الرسمي والقيام بنشاط إنساني مشترك، فأقاما سباقاً للركض لم يشترك فيه أحد غيرهما، كانت نتيجته خسارة السفير الروسي. الخيارات أمام مراسل وكالة الأنباء السوفييتية: ان يتجاهل الخبر ويغمض عينيه، أو أن يرسل إلى موسكو بأن سفير بلاده قد خسر السباق، بكل ما للخبر من آثار سلبية على بلاده التي كانت تحسب كل صغيرة وكبيرة في إطار سباقها المحموم مع الولايات المتحدة. باختصار، قام المراسل بتحرير الخبر ونشره على النحو التالي: "في سباق جرى بين سفراء في العاصمة الفرنسية، جاء السفير السوفييتي في المرتبة الثانية، في حين حل السفير الأميركي في المرتبة قبل الأخيرة"! هذا المثال يذهب بنا إلى المشهد السياسي الذي يستثمر التناول الإعلامي للأحداث، ويقيد قراءة مضامينها وفق ما يريد. فلا شيء يطلب من وسائل الإعلام، ولا اجندات خارجية تفرض عليها، بل يشدد السياسيون على ضرورة أن يحرص الإعلام على المهنية وقيمها المتعددة، التي أصبحت اليوم أحد المداخل الأساسية لإعادة توظيف الأخبار وفق الإرادات السياسية، فيما تتحول المصداقية إلى منجم غني لصناعة الأكاذيب، كما حدث في اجواء تهيئة المناخ العالمي قبيل احتلال العراق، وتتحول إجراءات الدقة والوضوح إلى مصدر لضياع الحقيقة او تعميتها، وربما اضفاء المزيد من الغموض حولها في اجواء من فوضى التقارير والتصريحات والتعليقات والمعلومات المتناقضة، كما في حالة وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وتداعياتها. الخبر كائن حي له دورة حياة ذات بداية ونهاية، ليتحول من ثم إلى أرشيف وتاريخ. وأثناء دورة الحياة، يمر الخبر بظروف ومحددات عديدة، ومصادر تغذيه وتوفر له أسباب الاستمرار؛ فإذا كانت الأحداث في السابق هي التي تصنع الأخبار، حين كنا نعرف الخبر بأنه نقل معلومات آنية عن أحداث وقعت، فإن الأخبار اليوم هي ذاتها قد تكون جزءا من صناعة الأحداث، بحيث اصبحنا نعرفها (الأخبار) بانها نقل معلومات عن أحداث تحدث، وذلك بفضل تكنولوجيا الاتصال وما وفرته من تقنيات متقدمة في البث المباشر؛ وهنا نجد العالم يشاهد الأخبار لحظة حدوثها وكما تحدث! بمعنى أن معايير الأخبار التقليدية التي تدور حول المصداقية وعدم التحيز والدقة وغيرها باتت مصانة أكثر من أي وقت مضى، فالحدث تشاهده أمام عينك مباشرة وعلى مئات الشاشات، وهو يدخل سوق الأخبار، ويجب أن يمر ضمن الظروف المعيارية بدورة حياة طبيعية يحددها الانتخاب الطبيعي. إن سرعة الأحداث، وآنية الأخبار، وتعدد المصادر، جعلت جميعها دورة حياة الخبر دورة ظالمة، ترفع من أهمية أحداث وتواري أحداثا أخرى وتقلل من قيمتها، دون أن يلمس الجمهور أدنى تضحية بمعايير الاخبار وقيمها! وفي الأسابيع القليلة الماضية مرت سلسلة من الأحداث التي توضح مدى الظلم الذي ألحقته قوانين دورة الأخبار بجملة من الأحداث العالمية. لنأخذ على سبيل المثال التغطيات الإخبارية التي تناولت الكارثة الطبيعية التي ضربت اريزونا (إعصار كاترينا)، فقد أسهمت مجموعة من المحددات في إطالة عمر دورة الأخبار حول هذه الكارثة وعلى مدار اكثر من أسبوعين، فيما تراجعت أمام هذا الحديث الأحداث الأخرى كافة في العالم، مما وفر بيئة ملائمة لتعاطف العالم وتعبئة المزيد من الموارد، بل عملت وسائل الإعلام على جعل العالم يقف على رؤوس أصابعه بانتظار ما ستؤول إليه التطورات. ولان الأخبار تعيش على الجديد والمدهش والمختلف، تم تضخيم الحدث مرات، كما ظهر ذلك في أرقام الضحايا وأرقام الخسائر المادية، لتكشف الأرقام الرسمية بعد تراجع الإعصار عن أرقام متواضعة مقارنة مع ما نقلته الأخبار على مدى أيام. في المقابل، لم يحظ زلزال باكستان الذي وصل عدد ضحاياه إلى أكثر من خمسين ألفا، أو بكلمات اخرى خمسين ضعف ضحايا كاترينا، وراح فيه جيل بأكمله من الأطفال وطلاب المدارس، سوى بتغطيات متقطعة، لم تصل بدورها إلى ذروة الأحداث ومقدمة نشرات الأخبار وعناوين الصحف الرئيسة إلا في اليوم الأول، وأحيانا في اليوم الثاني! وعلى الرغم من كون القصة الإخبارية، وفق معايير المهنية، قصة نامية؛ كل ساعة فيها مستجدات وتطورات، إلا أننا لم نلمس تلك المتابعة للملامح الإنسانية التي يجب أن تكون حاضرة بقوة في الوجدان الإنساني من أنين وصمت طلبة المدارس تحت ركام الدمار والردم، إلى القرى التي أطبقت عليها الأرض، ومئات الآلاف الذين مازالوا بدون مأوى في العراء وتحت المطر والبرد القارس، وهي أحداث تشكل منجما للقصص الإنسانية وفق المعايير المهنية. في المقابل، اخرج الإعلام العالمي كل فنون الاستقصاء والمتابعة لقصص إنسانية على شواطئ آسيا إبان إعصار تسونامي، من قبيل قصص تقطع سُبل سياح أوروبيين، او شهر العسل الذي انتهى بالاغتسال الأخير بمياه الطوفان.ثمة قصص إخبارية تتوالى باستمرار توضح حجم الظلم الذي تلحقه دورة الأخبار المعاصرة بحق أحداث بعينها، مرة بعد ظهور مفاجئ لأحداث جديدة تلتهم ما سبقها من أخبار، ومرة ثانية بفعل أجندة زمنية ممنهجة تقصد تضخيم أخبار والتقليل من قيمة أخرى او إبطاء حركة خبر آخر بدون أي تدخل سوى بالتحكم بمواعيد النشر والبث، ومرة ثالثة بفعل محددات موضوعية تتعلق بمفهوم سوق الأخبار وقوانينها وقواها الضاغطة والمؤثرة. الصحافة المحايدة والمتوازنة والموضوعية تحاول أن تعرف ما تريد أن توصله المؤسسات والنخب الرسمية إلى الرأي العام والمجتمع الدولي، ولكن ماذا تعمل إن كان الرأي الآخر ضعيفا وغير متماسك، ويمثل الحقيقة في نفس الوقت؟ خلال السنوات القليلة الماضية التي ارتفع فيها عدد شهداء الحقيقة، وازدادت الضغوط على وسائل الإعلام، فشلت هذه الأخيرة في حماية الحقيقة، وتورطت بشكل ملموس في لعبة دورة الأخبار الظالمة. وفيما أضاعت طريق الحقيقة بين تقارير مفتشي الأمم المتحدة، سكوت ريتر وهانس بليكس، وبين التقارير الرسمية والأمنية في ملف التهيئة لاحتلال العراق، حولت دورة الأخبار الظالمة مأساة دارفور إلى لعبة للمزايدات الدولية، بعد أن كانت قد أغمضت عيونها قبل ذلك بسنوات عن رؤية الموت في روندا الى ان وصلت رائحة الموت إلى العالم كله. كنا في السابق نقول إن الأحداث تصنع الأخبار، ولا يوجد أخبار دون أحداث. لكن أضيف إلى ذلك أن الأخبار قد تصنع الأحداث أيضا، بل وتحدد مسارات! وهذا ليس بالجديد، لكن الجديد أن الأخبار يمكن أن تصنع الأحداث دون أي مساس بشكلها الإجرائي، وبمعايير المهنية التقليدية، اللهم بمجرد التعامل الذكي مع دورة حياة الخبر.
0 comments:
إرسال تعليق