اعتاد العرب المعاصرون على المشاهد البهية للزعماء والقادة والسياسيين، ومظاهر الهيبة والنياشين والأناشيد تلفهم. لذا، كان مشهد محاكمة صدام حسين، بغض النظر عن صوريتها او عدم شرعيتها، الى جانب مشهد الانتحارات والفزع والإرباك أمام لجان التحقيق وتقاريرها، او مشاهد الصفقات السياسية السرية التي أعلنت صمت البيانات والوعيد والتهديد، جميعها مشاهد مثيرة في الحياة العربية المعاصرة، وهي بقدر ما تحمل من مرارة واختناق، فإنها تشير إلى أن الفأس قد اقتربت من الرأس هذه المرة بجدية. لقد مارست النخب الحاكمة في العالم العربي في السابق كل الحيل والمؤامرات للاستمرار في السلطة، ودخلت القرن الواحد والعشرين وقد غدا العالم العربي أشبه بمتحف للحياة السياسية في العالم، وفلكلورا سياسيا وعقائديا لم تنل منه أربع موجات من التغيير اجتاحت العالم وهزت حتى دول جنوب الصحراء في إفريقيا؛ فقد تغير العالم في كل مكان إلا في هذا الجزء الذي لا يخضع لقوانين التبدل، ويرفض كل أشكال التغيير. لا يمكن الاختلاف على حصاد ثمانية عقود هي متوسط عمر الاستقلالات العربية، وعطاء نخب توارثت السلطة؛ فمازالت معدلات النمو الاقتصادي في الدول العربية من اقل المعدلات في العالم، وفجوة التنمية هي الأوسع، والاستثمارات الأجنبية التي تتدفق إلى العالم العربي تكاد تكون الأقل بين أقاليم العالم، والإنجازات العلمية لا تكاد تذكر، والتعليم تفصله فجوة تتجاوز القرن عن العالم المتحضر، ونحن أسوأ شعوب العالم في توظيف التكنولوجيا. أما على صعيد حقوق الإنسان فحدّث ولا حرج، وحجم الحرية المتاح لا يكفي لاستنشاق الهواء، ولا تزال المرأة العربية تتحصن بآخر قلاع قهر النساء في العالم. وكما فشلت النخب الحاكمة في كل ذلك فشلت في مقاومة المشروع الصهيوني، وفي بناء ما تتحدث عنه من تضامن وعمل مشترك. وعلى الرغم من تهيؤ كل الأسباب المحفزة للتغيير، فانه هو الآخر يتأخر عن مواعيده في هذا الجزء من العالم بالتحديد. فكما تتمتع المجتمعات العربية بقدرة فائقة على الصبر ومداراة همومها، فهي للأسف تجهل في الكثير من الأحوال واقعها، مما يتيح للنخب الحاكمة اختراع آليات جديدة للتمسك بالسلطة، تأخذ في كل مرحلة الشكل الذي يحفظ لها كل هذه الممانعة والاستحواذ. وتبدو الحال في هذه المرحلة في ابتكار إصلاحات او إجراءات شكلية، توهم بان تغييرا ما يحدث، وان حركة الإصلاح دائرة. وهي تستعير خطابا إصلاحيا يضفي عليها قدرا من الوقار والاحترام، وهو ذات الخطاب الذي يعتبر قوى الإصلاح والتغيير الحقيقية فاقدة للشرعية، ويحرم عليها الالتحام بالمجتمع او الوصول إلى الناس. إن التطورات السياسية والاستراتيجية المتلاحقة، وحجم الضغوط الخارجية، ونُذر انفجارات متوقعة داخل المجتمعات العربية، كل هذه العوامل خلقت حالة ارتباك عميق في أواسط النخب العربية الحاكمة، وحفرت بقوة في وعيها، واصبح بعضها يعاني من هذيان سياسي واضح، فيما اصيب البعض أيضا بحالة انفصام في الوعي وتشوش في الرؤية والسمع، وهي تشاهد التحولات العميقة التي تضرب في صميم معمار الهيبة السياسية التي أوجدتها عبر عقود من تراكم القوة. فالأنظمة تحاكم بأكملها، ولجان التحقيق والنصب والتماثيل التي تجر في الشوارع، والأنظمة التي تشتم بالعامية على الصفحات الأولى من الصحف... كابوس يلاحق الكثيرين. لقد تنوعت خلال السنوات الاربع الماضية استجابة النخب الحاكمة لضغوط التغيير من الخارج، وأخذت أشكالا متعددة، إنما جميعها سعت إلى الظهور بمظهر التكيف مع الحقائق الجديدة، ومررت بعضها صفقات تنازلت من خلالها عن ما كانت تحسبه عدتها وعتادها دون التقدم قيد أنملة نحو الإصلاح الحقيقي، اللهم أن تبعد الفأس عن الرأس ليس إلا! والبعض الآخر من هذه النظم قدم استجابة طيعة لمطالب التغيير على مستوى الخطاب الرسمي، دون أن يمس ذلك الحفائظ الداخلية في ممارسة الحكم وأطره التشريعية. ونخب أخرى انخرطت في استراتيجيات الإدارة الأميركية، واصبح الحديث عن الإصلاح خبزها اليومي الذي لا يعني أكثر من الاندماج في آليات التبعية، وإفراغ مقولات الإصلاح من ابسط مضامينها. معادلة الولاء وبناء الشرعية في العالم العربي فريدة، فبدل أن تستمد النخب الحاكمة شرعيتها من مجتمعاتها، وتتبادل الولاء مع شعوبها، حافظت هذه النخب منذ نهاية الحرب العالمية الأولى على قناعة أن القوى العظمى -وبالتحديد بريطانيا وفيما بعد والولايات المتحدة- هي مصدر الشرعية واليها الولاء، وان هذه القوى هي وحدها القادرة على دعمها استمراريتها في الحكم، وهي أيضا قادرة على دعم المعارضة او صناعتها إذ اقتضى الأمر وإيصالها إلى سدة الحكم، وكل شيء له حسابه. يلتقي هذا الواقع مع قناعة مبطنة لدى النخب العربية الحاكمة بان الإصلاح السياسي والديمقراطية كما يعرفها العالم ليست في مصلحة الإدارة الأميركية التي تستمد منها هذه النخب شرعيتها وقوة استمرارها؛ فالديمقراطية قد تقود إلى قرارات مستقلة في الاقتصاد والتنمية قد تزعج الأصدقاء، كما أنها قد تقود إلى صعود نخب سياسية جديدة وفقا لقصة الإسلاميين ذائعة الصيت. والديمقراطية قد تؤدي إلى رفض مشروع الشرق الأوسط الكبير. وهكذا، ووفق هذا التصور، تعود تلك النخب ولسان حالها ان الولايات المتحدة رغم كل هذا الضجيج غير جادة في مطالب الإصلاح، لتستفيق النخب في اليوم التالي على مشاهد المحاكم ولجان التحقيق والشوارع المليئة بالغاضبين. لقد جربت النخب العربية الحاكمة عبر عقود من توارث السلطة وتراكم القوة كل أشكال الممارسة الامنية والبوليسية والإقصاء والمنع، وكان شعارها الحقيقي دائما "يحدث أي شيء لتبقى الرأس بعيدة عن الفأس". ورغم كل الضجيج لم تتوقف القصة السابقة، وما تزال الفأس طائشة، وهناك أيد كثيرة تحاول ان تتلقفها
0 comments:
إرسال تعليق