2/12/2005
ماذا يريد الرئيس الأميركي ان يقوله للعالم ضمن سلسة خطاباته الجديدة التي بدأها الأربعاء الماضي؛ شارحا استراتيجية البقاء في العراق في الوقت الذي يتحدث فيه العالم عن استراتيجية الخروج وإنهاء الاحتلال؟ وهل تتطلب الوقائع الكلامية الجديدة مراجعة فكرية واستراتيجية من نوع آخر توضح موقع العراق في الاستراتيجيات الأميركية القادمة؟
وفي الحقيقة، إن تضاريس الأفكار يعاد ترتيبها اليوم حسب ما تتطلبه تضاريس الأرض، فنحن أمام عودة قوية لمنطق الجغرافيا السياسية، وهو بالفعل ما يحدد اتجاهات عقارب الساعة السياسية في يد الرئيس الأميركي، ويحدد مواقيت البدء ومواعيد الحسم في
الكثير من الملفات. والجغرافيا السياسية الساخنة هي التي تجعل العالم يُحكم من "المنطقة الخضراء" وسط بغداد أكثر من البيت الأبيض.
فما تقود إليه الأحداث، إلى جانب ما نلاحظه من تحولات، جمعيها تشير إلى إن المحافظين الجدد في الإدارة الأميركية يسعون إلى تأسيس وجود عسكري سلمي طويل المدى في العراق، بما يوفر التطبيق الجديد لمفهوم المجال الحيوي الجديد للولايات المتحدة، الذي سيكون مركز التحكم فيه من بغداد، في طموح اقرب ما يكون إلى الاستفادة من نموذج التوسع الإمبراطوري البريطاني في القرن التاسع عشر. حيث ستكون العراق في القرن الحادي والعشرين كالهند في القرن التاسع عشر باختلاف المصالح وأدوات التعبير، وهو ما يعيدنا إلى مراجعة; طموح المحافظين الجدد في السيطرة على ما يسمى المحور الجغرافي للتاريخ. وكأن واشنطن اليوم تعيد إنتاج دور لندن قبل قرن، حيث لا يتوقف المحافظون الجدد عن الإشارة إلى التجربة البريطانية في الشرق والدعوة الى المزيد من الانغماس في شؤون العالم.
في عقد التسعينيـات سادت اتجاهات فكريـة تحاول ان تعترف بعودة دور الجغرافيا السياسيـة الحاسم في الاستراتيجيات الدوليـة الجديدة؛ ولكن هذا الدور قد تغير من جغرافيا التضاريس الصلبـة إلى جغرافيا الحدود الشفافـة؛ بمعنى أن الدول الكبرى وفي مقدمـتها الدولـة العظمـى ليست بحاجـة لشن الحروب وتحريك الجيوش والحملات العسكريـة لتحقيق المصالح أو تأمينها.
بل إن المعطيات التي وفرتها الموجـة الجديدة من العولمـة وانهيار الحدود التقليديـة، توفر للدول أدوات جديدة لاختراق الحدود التي أصبحت شفافة ووهمية بدون الحاجة لجيوش جرارة وقوة تدخل مباشرة. وحسب "تايلور" اشهر منظري الجغرافيا السياسية الجديدة فان الهيمنة الجديدة وما افرزته من مفاهيم للقوة او الحدود السيادية يقصد بها الهيمنة الاقتصادية والثقافية دون حواجز حدودية، وبعبارة أخرى "جغرافية السيطرة دون إمبراطورية" أي أن يصبح العالم كله عبارة عن المجال الحيوي للولايات المتحدة، بالاعتماد على مبدأ اللامواجهة الذي توفره التكنولوجيا المعاصرة وتطبيقاتها الممتدة من الحروب الإلكترونية وصولاً إلى الهيمنة الإعلامية.
بينما كانت مقولات السيطرة الناعمة تصدق بسهولة في السنوات القليلـة الماضيـة، فان المهمة السريعة والعاجلة للجيش الأميركي في العراق باتت اليوم تكشف خداع هذه النظرية وتعود من جديد إلى اعتبارات الجغرافيا السياسية التقليدية، وان اختلفت مناخاتها، وان تنوعت مزاجات الدول في التعبير عنها. فبالرغم من الهشاشة الاستراتيجية لمواقف أطراف الصراع في العراق، وبالرغم من الترهل السياسي والانفلات الأمني الذي أدخلت المهمة العاجلة التي لا تنتهي المنطقة في اتونه، فانه - ومن منظور الجغرافيا السياسية- أصبح العراق قلب العالم الذي يحدد الكثير من اتجاهات ومسارات الأحداث الراهنة والمستقبلية، وهكذا من بغداد المحتلة يُحكم العالم وتحدد أجندة الكثير من الأحداث ومساراتها، بل ومصائر الكثير من القضايا والملفات
0 comments:
إرسال تعليق