يلف مستقبل التيارات والتنظيمـات المتطرفـة الغموض، بقدر ما يوصف به واقع هذه التيارات وسلوكها من غموض ايضاً، والمتمثل في عدم القدرة على بناء احتمالات أو توقعات للخطوة القادمـة أو الهدف المنتظر أو حتى طبيعـة تحالفاتها أو ساحاتها المستهدفـة. ولعل فك الاشتباك حول هذا الغموض لا يتيسر بسهولـة نظراً لمستوى التعقيد والإرباك والتداخل الذي تشترك فيـه قوى فاعلـة وأخرى غير منظورة أضفت بظلالها على التاريخ المعاصر للأصولية المتطرفـة عبر موجات من الصعود والتراجع خلال الثلاثة عقود الماضية.
وعلى الرغم من ان تصنيف هذه التيارات وتقسيم سلوكها يقاس اليوم على مسطرة استخدام العنف والإرهاب في سلوكها السياسي والتنظيمي، فإن ذلك لا ينفي مرجعيتها الأساسية التي تعبر عن اصوليات اجتماعيـة في الأصل؛ أحد تعبيراتها الواضحـة التطرف الفكري والثقافي، في الوقت الذي يعد استخدام العنف والإرهاب تعبيراً آخر عن كنه الأصوليـة. وهذا يقودنا إلى الاستدراك والانتباه بأن الدعـوة; للتصدي للفكر والثقافـة المتطرفة ليس الا مجرد محاولـة للاقتراب من مظهر أو نتيجـة أو أحد تعبيرات هذه الاصوليات الاجتماعية، مما يتطلب العودة بالأصولية الإسلامية المتطرفة إلى سياق النظريـة الاجتماعيـة مع الاخذ بخصوصيتها، حيث تأتـي هذه التيارات وما تبعها من تنظيمات ترفع رايـة الجهاديـة المتطرفة في سياق ما يعرف بالحركات الاجتماعيـة الاحتجاجيـة المتطرفـة، التي تسعى من خلال العمل الجماعي المنظم وبالاعتماد على العنف إلى إحداث تغيير في المجتمع، وتلجـأ إلى الانفصال عن المجتمع وهجرته حماية لأفرادها مما تدعيه من قيم المجتمع الفاسدة، الأمر الذي يصل إلى حد إحداث قطيعة شعورية أو بلغة علم النفس الاجتماعي الانفصال الشعوري عن المجتمع.
في هذا السياق تقرأ التفجيرات الإرهابية الأخيرة في عمان بما تحمله من تحولات نالت الأصولية الجهاديـة، وتبين عمق انفصالها الشعوري وحجم القطيعـة المجتمعيـة التي باتت تحكم سلوكها. وهذا التطور يمهد لبناء سيناريوهات أوليـة قابلـة للزيادة أو النقصان أو النفي، ترصد ملامح الأيام القادمــة لهذه الظاهـرة الغامضة ليس من خلال التطور الذاتي، بل من خلال الردود المجتمعيـة التي قد تتبلور تباعاً، حيث يمكن ان نرصد ثلاثة تصورات مستقبليـة في سياق الردود المجتمعية:
السيناريو الأول؛ يتحدث عن بناء صورة ذهنية فارقة تجسد حالة الفرز النهائي في وعي الناس لهذه الظاهـرة وتقييمها، تستند إلى الرؤية بالعين والدليل بالاعتراف، ما سيدفع جمهـور القلة من المسلمين المؤيدين لفكرة وسلوك "الجهادية الأصولية" إلى التساؤل والتردد، وينقل جمهور المسلمين المترددين إلى حسم رؤيتهم بزيف مقولات الجهاد المتطرف التي تصبغ هذه التيارات. وستقود هذه التحولات إلى اتساع الفجوة، وستزيد من عزلـة التطرف ونبذه، بمعنى ان; الأمر سينعكس في مظاهر السلوك العام من ناحية، وفي موقف جمهور المسلمين من رموز ومظاهر السلوك المتطرف في اللباس وهيئـة الجسد واللغة والخطاب من ناحية أخرى.
وفي الوقت الذي ستدشن فيه هذه الصـورة الذهنيـة الفارقـة، ويبدأ; تشكل وعي جمعي مفارق سيزداد "الرهاب الاجتماعي" أي الخوف الجماعي في وسط جمهـور المسلمين أنفسهم، لان اللحظات الفاصلـة التي تشهد على ميلاد وعي جديد، لها وجه اخر هو الاستقطاب الشديد، مع الأخذ بعين الاعتبار بأن التيارات والتنظيمـات المتطرفـة تزداد تطرفاً أكثر مع ازدياد تضييق الخناق الاجتماعي حولها، وهو أقسى عليها من الخناق الأمني والسياسي، لأنها تدرك تماماً بان افتقادها العمق الاجتماعي يعني بداية نهايتها، لذا تزداد في غلواء تطرفها، وربما يصل التدهور بان تدخل هذه التيارات وحركاتها التنظيمية في مواجهة ثقافية متهورة ومدمرة مع مجتمعاتها بعد تجربتها المريرة والفاشلة مع النظم السياسية القائمة.
السيناريو الثاني يأتي من صلب حركات الإسلام السياسي، ويبرز تحت عنوان عريض يمثل لحظة الانتباه التاريخي، إذ انه مع ازدياد إمعان الأصولية المتطرفة في اغتيال عقيدة الجهاد وتحويلها الى سلوك دموي بائس، ومع انكشاف افتقادها للقضية التي أعلنت الجهاد من اجلها، بعدما استعارت أهدافا وساحات بعيدة عن تلك القضية، يزداد في هذه الأثناء انتباه التيارات والتنظيمات الإسلامية الرشيدة الى الاثار الخطيرة التي ستطالها إذا لم تفعل شيئاً ما لوقف هذا التدهور المرضي في توظيف الدين؛ ففي نهاية المطاف سوف تجمع كل التيارات الدينية في سلة واحدة وبالتحديد في نظرة المجتمع وتقييمه.
ويأخذنا هذا السيناريو نحو اكبر تنظيم إسلامي عالمي، وبالتالي اكبر تنظيم إسلامي في المشرق العربي يملك اكبر تراث تنظيمي وله أدبيات واسعة وغنية في ترشيد الحركات الإسلامية، وهو تيار الإخوان المسلمين، الأكثر قدرة على ممارسة هذه المهمة، وبالفعل كان للإخوان محاولة سابقة لخلق لحظة الانتباه التاريخي حول خطورة التنظيمات الجهادية المتطرفة وخطابها، رغم ان العديد من الآباء المؤسسين للجهادية الأصولية المعاصرة خرجوا من معاطف الأخوان. محاولة الأخوان المسلمين الأولى تعود إلى النصف الثاني من السبعينيات، وقادها مرشدهم السابق "حسن الهضيبي" حينما كتب مؤلفة المعروف "دعاة لا قضاة" في عام 1977م. في الحقيقة شارك الهضيبي في تأليف هذا الكتاب مجموعة من علماء وشيوخ الأخوان، ليكون مرجعية إسلامية عالمية في مواجهة فكر الجهادية الأصولية المتطرفة وانحرافه، وأرادوا بذلك الرد على أفكار سيد قطب وشكري مصطفى (الأخير زعيم تنظيم جماعة المسلمين أو التكفير والهجرة)، ويحاول الكتاب العودة بالإسلام إلى أصوله الاحيائية وإنقاذ عقيدة الجهاد من التطرف المفرط والمغالاة، كما يحاول تصحيح العلاقة بين الاسلامين وجمهور عامة المسلمين، ويدل ذلك على لحظة انتباه تاريخي ترمز الى إدراك الأخوان لخطورة افتقاد العمق المجتمعي وما يضفيه من شرعية.
وفي هذه اللحظات يشكل انكشاف الوظيفة الجهادية لتيارات التطرف الإسلامي مأزقا حقيقياً للإخوان المسلمين أمام مجتمعاتهم أكثر من أي جهة أخرى، حيث ان عامة الناس غير معنية بالحدود الفاصلة بين تنظيم وآخر، أو بين رؤية وأخرى، في المحصلة ثمة مهمة تاريخية تنتظر هذه الجماعة، ومن المتوقع ان يقود الإدراك التاريخي الأخوان نحو خطورة الموقف والمصير الذي ينتظرهم إذ استمروا في حالة الانتظار الراهنة.
يدور السيناريو الثالث حول تحولات عميقة ستنال بنية المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية التي ترعرعت في كنفها تيارات أصولية متطرفة وفي مقدمتها الوهابية، حيث تشهد المملكة العربية السعودية حالة استقطاب ازدادت شدة منذ احداث أيلول في الولايات المتحدة، والأرجح ان يكون مصيرها الحسم التدريجي. ورغم ان بناء تصورات حول مستقبل الوهابية يكتنفه الغموض؛ فهي مرشحة لاحتمالات متناقضة في أقصاها ما يتردد حول سيناريوهات لاعادة صياغة المنطقة بأكملها تنال الجغرافيا السياسية وتضاريس الافكار والعقول ايضاً، ولكن هذا لا يعني التقليل من قيمة الحراك الفكري الدائر منذ مطلع الثمانينات، والذي انتكس أكثر من مرة، وبينما تفكر المؤسسة الدينية السعودية بمستقبلها، ثمة مؤسسات أخرى في الداخل والخارج ربما حسمت الرؤية المستقبلية حولها.
ولان حركات التطرف الدينية عادة تخرج من صلب المجتمعات وعلاقاتها الصراعية، فهي اقرب إلى مفهوم العملية الاجتماعية التي لا يمكن إخضاعها لتصورات مستقبلية دقيقة، وهذا ما يفسر كيف فاجأت الجهادية الإسلامية المتطرفة العالم في أكثر من مرة.
0 comments:
إرسال تعليق