تحدث المتخصصـون في علم الإنسان "الانثربولوجيـا" عن أسطورة تنتشـر في العديد من الثقافات الإنسانية، أطلقوا عليها اسم (صانع المطـر) تحمل دلالـة رمزيـة يعبر عنها بالسلوك المادي, حينما تجف السماء وينقطع الغيث، وعادة يأتي السلوك على شكل استغاثـة بطلب المطـر، ولطالما اكتشف الناس خداع صانع المطـر وزيف الخرافـة وما يصاحبها من طقوس تمارس تخدير الناس تعرف في بلاد المشرق العربي بطقس يسمى (أم الغيث(.
في السياسـة المعاصـرة تطرب النخب السياسيـة العربية لاستعادة هذه الأسطورة وتمارس من خلالها فنون الخداع والتزييف ومصادرة نضالات الناس وأشواقهم للتغيير، والمفارقـة الطريفـة ان صناع المطر والتغيير الجدد يمارسـون الخداع بكل الاتجاهات على الرفاق القدماء وعلى ندماء السياسيـة الجدد وعلى الحلفاء العلنيين وحتى على المرجعيـات الخفيـة.
في المعركـة على رئاسـة الحكومـة العراقيـة القادمـة، يتنافس الفرقاء على الاقتراب من قلب واشنطن اكثر من الاحتكام لما يفترض ان تقود إليه العمليـة السياسيـة من تحالفات وصفقات وحراك سياسي، وربما نجد التبرير لهذا الوضع في بلد يخوض تجربـة مختلفة في بناء نظام سياسي جديد تحت سلطـة الاحتلال، وهذا بالطبع ما يفضي إليـه منطق السياسـة والقوة.
لكن الأمر الذي لا يجد تبريرا واضحا له؛ هو السلوك السياسي الذي يتجاذب شخصيـة مثل أحمد الجلبي احد المرشحين الذين لديهم من الطموح ما هو اكبر من حجمهم لرئاسـة الحكومـة العراقيـة القادمـة، هكذا بدا المشهد من واشنطن خلال الزيارة التي قام بها قبل عدة أيام مروجا نفسه من جديد أمام صناع القرار الأميركي. وبينما خاضت الصحافـة الأميركية حملـة واسعـة مضادة للجلبي خلال الأسابيع الماضيـة تزامنت مع فضيحـة (بلام غيت) حول تسريب المعلومات السريـة المرتبطـة بمدير مكتب نائب الرئيس والصحافيـة جوديث ميلر، نجد في هذا الوقت ان الجلبي يستقبل بحفاوة وترحيب من نوع خاص لدى بعض الدوائر الأميركية، فالرجل الذي تصفـه الصحف الأميركية بالسياسي العراقي الانتهازي والعميل المزدوج أستُقبل من قبل كبار المسؤولين في الإدارة مثل وزيرة الخارجيـة ومستشار الأمن القومي ووزير الماليـة وغيرهم! ولعل هذه النوع من الجلبـة السياسيـة يأخذ للوهلـة الأولى على محمل كون الرجل يحتل موقعاً في الحكومـة العراقيـة الراهنـة، لكن كيف نفسر هذا الاحتفاء الذي يتزامن مع واحدة من اكبر الفضائح السياسيـة التي ترتبط من قريب وببعيد بهذه الشخصيـة الخلافيـة؟! ومن ثم لا نجد تفسيرات مقنعـة للحفاوة الأخرى التي يلقاها الجلبي نفسه من بعض النخب الأميركية الأكثر تشدداً وتعصباً ضد العراق والعرب والمنطقـة بأكملها. لنأخذ على سبيل المثال الاحتفاء الذي نالـه من قبل المستشرق المعروف برنارد لويس احد اكبر أعداء العالمين العربي والإسلامي، وصاحب فكرة استعمار العالم العربي من جديد، وصاحب مشروع إعادة تفتيت المفتت وتجزئة المجزأ.
تأتي عمليـة التسخين التي ارتفعت فيها درجـة حرارة التنافس بين الطامحين إلى رئاسـة الحكومـة العراقيـة المنتظرة عقب انتخابات الجمعيـة الوطنيـة الشهر القادم، بعد حالـة الانكشاف الكبيـر التي نالت بعض رموز العمليـة السياسيـة الدائرة بين واشنطن وبغداد وطهران. والغريب في الأمر ان هؤلاء وعلى رأسهم أحمد الجلبي ما زالوا يصرون على الاستمرار في المتاجـرة بنفس البضاعـة، مما يفسر ما شهدته واشنطن خلال الأسابيع القليلـة الماضيـة من مكائد متبادلـة واتهامات وعودة لتحالفات قديمـة، وتهديدات باغتيالات متبادلـة أيضا، وصلت هذه الحالـة المحمومـة إلى اشدها خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها كل من الجلبي نائب الرئيس الوزراء الحالي وعادل عبد المهدي نائب رئيس الجمهورية الحالي.
السجل السياسي والأخلاقي لزعيم حزب المؤتمر الوطني العراقي لدى الولايات المتحدة يحمل تناقضات وغموضا ورغبـة لدى بعض أطراف الإدارة بالمحافظـة على صداقـة ملتبسـة، ويعيد إلى الأذهان سلوك الدول الكبرى في أحلك أيام الحرب الباردة، حيث لا تتورع القوى الكبرى من التحالف مع تجار الموت والمرتزقـة والعملاء المزدوجيـن ورموز الفساد. الأمر الذي يطرح علامـة استفهام كبيرة حول ما تريده بعض الأطراف الأميركية من عميل قديم كُشفت الكثير من أوراقـه، ولا يوجد له ثقل حقيقي على الساحـة العراقيـة وبالتحديد بعد تبلور التحالفات السياسيـة التي ستفضي الى الجمعيـة الوطنيـة الشهر القادم، ولا يشكل تياره اكثر من ناد سياسي هامشي.
اما الصحافـة الأميركية فقد ذاقت مرارة الخديعـة التي ضربتها في شرفها المهني عبر ملفات القصص الملفقـة حول العراق, وتطرح اليوم سؤالها الاستنكاري (ماذا لو وصل أحمد الجلبي إلى كرسي الرئاسـة ؟) ومن سيحسم مستقبل العمليـة السياسيـة في العراق: صناديق الانتخابات ام إرادة المحافظين الجدد ومصالحهم؟ في الوقت الذي نجد فيه ان الرأي العام المتبلور في أوساط الكثير من النخب الأميركية قد حسم لجهة ان العميل المزدوج قد استنفدت كل أوراقه.
لم يعد هناك من شك بأنه يقف وراء سلسلـة أخطاء ارتكبتها الإدارة الأميركية أهمها توريط الإدارة بشن الحرب على العراق بمبرر أسلحة الدمار التي قيل ان نظام الرئيس العراقي السابق كان يمتلكها, والادعاء بأن الشعب العراقي سوف يستقبل القوات الأمريكية استقبال الفاتحين، علاوة على كونه المصـدر القديم لمعلومات جوديث ميلر التي تزكم الأنوف هذه الأيام؛ وبالمناسبـة تعد ميلر أحد أكبر قادة الحملـة الترويجيـة للجلبي في واشنطن، كما تتحدث الحملـة المضادة عن ملفات أخرى لا تتوقف عند التجسس لصالح إيران، بل تصل إلى وقوفـه خلف العديد من القرارات الأميركية في الملف العراقي التي شكلت حزمـة أخطاء الإدارة في الحرب، ومن بينها قرارات اجتثاث الآلاف من الخبراء والتقنيين والمهنيين بدعـوى انتمائهم السابق لحزب البعث، ثم حملـة التطهير التي قادت إلى استبعاد السنـة وخلق حالة الشرخ الطائفي وقبلها حل الجيش العراقي.
تبدو المعركة في الولايات المتحدة حول الجلبي على شكل حملات متبادلة تمتد من معركة حماية الحقيقة وشرف المهنة الصحافية، وصولاً إلى العقيدة الأمنية وما تحمله من مصالح عليا طالما أهدرت - كما تقول النخب الأميركية نفسها-، بالتورط بمثل هذه النماذج، وفي حين تدور المعركـة السياسيـة في العراق بكل ثقلها مازالت فرص التغيير الحقيقي تتراجع كلمـا بدا أنها تتقدم.
0 comments:
إرسال تعليق