إذ إن المسكوت عنه المرتبط بالتحولات الاجتماعية والديمغرافية والاقتصادية، هو تغير شكل الأسرة العربية ودورها، وأنماط الإنتاج وعلاقات الإنتاج التي تعتمد عليها، ونمط العلاقات بين أفرادها (الأسرة) وبينها وبين المجتمع؛ أي كيف تحولت إلى أسرة حديثة في الشكل، إنما مع مضمون تقليدي محافظ.
أهم التحولات الاجتماعية الاقتصادية، الإزاحة الهائلة خلال آخر عشرين عاما في المجتمعات العربية نحو المزيد من التركز والتضخم في الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى. وقد جاء ذلك بالانزياح من الطبقة الفقيرة نحو الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى، نتيجة عمليات التحديث وتحسين بعض شروط العمل؛ وفي المقابل، تمت إزاحة أخرى نتيجة الانهيارات الاقتصادية والاجتماعية من الشريحة العليا من الطبقة الوسطى إلى الشريحة الدنيا من هذه الطبقة. بمعنى حدوث انزياح كبير في التركيب الاجتماعي للمجتمع العربي، ما جعل الشريحة الدنيا في الطبقة الوسطى هي قاعدة الهرم السكاني والاجتماعي.
هنا، علينا أن نتوقف أمام القيم والثقافة التي تحكم هذه الطبقة الاجتماعية الأوسع انتشارا، وأهم ملامحها أنها طبقة متشددة في المحافظة. فهي تملك القليل، وتخشى كثيرا على ما تملكه. لذا، لديها استعداد كبير للتدين الاجتماعي ومطواعة للتطرف؛ بطيئة في الاستجابة للتغيير؛ يتلقى أبناؤها تعليما رديئا؛ ولديها خوف كبير على المستقبل. ووسط هذا التركيب، تبدو القدرة على التضحية عالية وسط أفرادها، وتتعدد أشكال التعبير عن هذه التضحية.
إن شكل الأسرة العربية التقليدية يتغير، فيما يجذب التعليم العام الرديء الأسر للتعليم، وتعد هذه الطبقة الأكثر استهلاكاً للمنتجات الإعلامية. وهي الفئة القادرة على التأثير وإحداث الفرق على الأرض وفي الشارع.
الخطير أن هذه التحولات لا يُلمس أثرها على المستوى الاجتماعي مباشرة، بل هي تتفاقم حتى تنفجر على المدى المتوسط، وتتحول إلى كارثة؛ رغم أن من السهل مراقبتها في الحياة اليومية، وفي تسلل مؤشرات الرداءة إلى حياة الناس. لكن كثيراً ممن يصنعون القرار لا يعلمون، عادة، شيئا عن الحياة اليومية للناس ولا يعيشونها.
في العالم العربي، علينا الالتفات إلى الانتكاسات التي تضرب مشاريع الإصلاح، وأن نحدد متى يكون مصدرها تشوهات الطبقة الوسطى. كما علينا الالتفات إلى "المفرخة" الحقيقية للانغلاق وللجهاديين الذين يذهبون إلى معارك غير عادلة. فهذه الطبقة المشوهة هي البيئة الخصبة لإنتاج التطرف، بعكس ما يعتقد كثيرون؛ بأن البيئات الفقيرة والمحرومة هي التي تنتج المتطرفين.
تصبح الطبقة الوسطى مصدرا للتهديد ليس بفعل ذاتي، بل بسبب السياسات التي توجه إليها، وأهمها المزيد من الضغوط الاقتصادية التي تكبلها بالديون والضرائب، والمزيد من تضييق الفرص، والحد من سقف الطموح أمام أبنائها وفئاتها الجديدة؛ ما يزيد الشعور بين أفرادها بأن ثمة طرقا أسهل وأسرع لتحقيق الذات، متاحة بعيدا عن سلطة القانون والأخلاق، في الوقت الذي تتضخم فيه النزعة الاستهلاكية بين أفرادها، وتتراجع القدرة على الادخار وتختلط الأولويات. وعلى سبيل المثال، يتآكل الإنفاق العام على التعليم، بينما تتصاعد النزعة الاستهلاكية من دون أرصدة حقيقية. وهذا التشوه يقود إلى تنامي أخلاق جديدة وسط فئات هذه الطبقة، أهم ملامحها تآكل رأس المال الاجتماعي؛ أي تراجع الثقة العامة، وارتفاع كلفة الائتمان في المعاملات المالية، وازدياد الجرائم الاقتصادية.
علينا أن نحفر عميقا في فهم ظاهرة التطرف. وهو ما يحتاج إلى حفريات عميقة في علاقات الداخل بالداخل، قبل السؤال عن العلاقات مع الخارج.
0 comments:
إرسال تعليق