تراجع بشكل واضح حضور حركات الاحتجاج العربية التي انتشرت خلال الخمس سنوات
الماضية في أكثر من بلد عربي وسط حالات الاقتتال والصراعات والعنف السياسي
والارهاب، ومع الانسحاب الواضح لهذه الحركات تشهد المجتمعات المدنية
العربية حالة صمت مزعجة لا تتفق مع الوعي بحال هذه المجتمعات ولا بمصادر
التهديد التي تحدق بها من كل الجهات، وتتوعد مصيرها ووجود كياناتها.
ثمة
حالة من الخوف يمكن أن يطلق عليها (الخوف الاتصالي)، أي مستوى من الخوف
والقلق على الحاضر والمصير الذي يجعل الفرد ينسحب ويرفض القيام بسلوك
اتصالي مع أشخاص آخرين أو داخل الجماعة؛ أي غياب أو تراجع النقاش العام،
وعدم القدرة على تبلور أو ظهور الرأي العام، حيث يرتفع سقف التوقعات
السلبية من جراء أي تفاعل اتصالي عكس حالة الرغبة في النقاش والاتصال التي
هي الأساس في صياغة الرأي العام، بينما يقود الخوف الاتصالي إلى نوع من
العزلة والريبة التي تنتقل من الأفراد إلى الجماهير، في المقابل ينسحب
الناس باستلام لذيذ لوسائل الإعلام لتفريغ جانب من هذا الخوف، وهو
الاستسلام الذي يخلق ظاهرة أخرى تسمى ظاهرة القطيع الاتصالي.
لم يعد لدى
الناس رغبة في مناقشة مصيرهم المهدد في وسائل النقل العامة كما كان يحدث
قبل سنوات، ولم تعد تلك الرغبة في التعبير الجماعي في الساحات العامة وأمام
المتاجر والدكاكين في القرى والبلدات متوفرة، كما انسحبت الحياة العامة من
الجامعات العربية، وانسحبت الجماهير من الشوارع، وتراجع دور قادة الرأي
والفاعلين الاجتماعيين.
في هذا الوقت تلعب وسائل الاتصال الجماهيري
دوراً سلبياً هروبياً ويمثل مشهد الشاشات العربية اليوم المثال الحي لهذه
الظاهرة، فالنقاش حول القضايا العامة وحول المصير الجماعي المهدد، يتدفق
بصوت مرتفع باتجاه واحد، والجماهير متلقٍ سلبي غير فاعل ويتعمق الميل نحو
التمركز حول الذات من خلال محاولة استعادة الماضي بقوة أو استعادة تفاصيل
اجتماعية بائسة من ذاكرة الفرسان الغابرين أو الحارات المقفلة التي لا تقدم
ولا تؤخر شيئا، أكثر من تعميق المجال الاجتماعي الراكد منذ عقود طويلة،
وهو ما تؤكده حالة الاستلاب التي تقدمها الفضائيات العربية في شهر رمضان،
ويستسلم إليها الناس بكل رضا، وتصبح هي همومهم وخبز حكاياتهم اليومية، لا
يحدث ذلك لأن هذه المجتمعات وجدت الحلول المطلوبة لكل مشاكلها، أو اقتربت
نحو التخلص من همومها، بل لأنها تجد الصمت والانسحاب على أقل قدر أفضل من
مناقشة هذه الهموم والمصير المهدد لأنه بالصمت والهروب تكمن سعادتها
اليومية.
لو نظرنا إلى المشهد من إحدى زواياه وتساءلنا؛ هل فقدت
المجتمعات العربية القدرة على النقاش العام قبل أن نتساءل عن استعدادها
للاحتجاج، وما مدى ارتباط الأمر بالظروف والمحددات الموضوعية للتعبير
السلمي عن الرفض، أم أنها ممعنـة بدوامـة الصمت والخذلان واليأس من
التغيير، وتعبر عن هذا الواقع المرير بتفريغ جماعات العنف المعروفـة، ومن
الزاوية المقابلة تُطرح أسئلة أخرى لا تقل خطـورة أهمها حول علاقة الأنظمة
الاتصالية السائدة في التعبير عن سلطة الناس أو الرأي العام، هل هي قادرة
بالفعل على استعادة الناس إلى أوطانهم، وأقلها إعادة أصوات الناس إلى
حناجرهم للتعبير بإرادتهم وبالشكل الذي يرغبون فيه عن مطالبهم وحاجاتهم
للتغيير؛ يجب أن نلتفت إلى ان النظم الاتصالية التي تهيمن على الرأي العام
وتحدد مضمون ووسائل تعبيره تعاني من أزمات متعددة في علاقتها مع المجتمعات؛
هناك أزمة معرفة ووعي متبادلة، وهناك أزمـة ثقة وشك في مصداقية ذهنية
الطليعـة التي ما تزال تحكم هذه النظم، وهناك أزمة غربة وفجوة بين بعض
ملامح البرنامج الشعبي للتغيير في معظم المجتمعات العربية المعنون بقضايا
الفقر والبطالة والفساد والتهميش ومضمون هذه النظم الاتصالية التي تشكل
وسائل الإعلام إحدى أدواتها الأساسية.
0 comments:
إرسال تعليق