تأخذ الصدقات السياسية أشكالاً وأنماطاً متعددة في سياق التحولات العميقة التي تشهدها في هذا الوقت العديد من دول ومجتمعات جنوب العالم، وفي مقدمها بعض الدول والمجتمعات العربية. والصدقة السياسية تشير إلى مفهوم مستعار، يقصد به المنحة التي يمن بها من يسيطر ويملك القوة والسلطة والمال على الناس ومؤسساتهم وأشكال تنظيماتهم المحلية. ووفق هذا المنطق، يصبح استعادة الناس لبعض حقوقهم، أو لشيء من العدالة في توزيع الثروة والقوة في المجتمع، عبارة عن منحة أو منة تقدم للناس، ويحق للسلطة استعادتها في أي وقت وتحت أي ظرف وبدون أي مبرر. هكذا، تصبح خطوات التحول نحو الإصلاح والديمقراطية المفتقِدة لجذور محلية عميقة ونضالات ديمقراطية وطنية عرضة للانتكاس والإلغاء؛ فهي تملى من الخارج، وتكتب محلياً بقلم رصاص قابل للمحو في أية لحظة. يمكن الحديث عن أشكال متعددة من الصدقات السياسية وأشكال أخرى من أدواتها، والتي تبدأ من المال السياسي الذي يتدفق من جهات متعددة وكثيرة، طال الحديث حولها وتشعب خلال السنوات الماضية، ونال تمويل الأحزاب والجمعيات والمنظمات الأهلية والأفراد والدول. لكن أكثر أشكال الصدقات السياسية السائدة اليوم تتمثل في ان تصبح أية خطوة على طريق الديمقراطية والإصلاح السياسي منحة وهبة على شكل صدقة سياسية تمنح من الخارج، ومن القوى الكبرى لمجتمعات ما تزال حائرة وسط فوضى الاختلاف على القيم الأساسية، وفي المستوى الثاني هبة وصدقة سياسية تقدمها السلطة لجماهيرها. لقد جسدت فعاليات السنوات الأربع الماضية من التنظير والممارسة، في محاولات تعبيد الطريق المتعثرة نحو الديمقراطية والتغيير السلمي في العالم العربي، جسدت حالة من التكيف الثقافي والسياسي الذي يعمل على إعادة إنتاج شرعية جديدة للنخب الحاكمة والطبقات السياسية التقليدية، عن طريق استثمار العملية السياسية والمجتمعية السائرة نحو احداث بعض الإصلاحات السياسية، على ضحالتها، وجعل هذه العملية آلة لترسيخ شرعية تلك النخب؛ وأهم أدوات هذا التسويغ تتمثل في صيغة الصدقات والحسنات السياسية والزكاوات التي تقدمها السلطـة، والتي من الطبيعي ان لا تمهد لمشاركة سياسية حقيقية وفاعلة، بل إلى ترسيخ المزيد من ثقافة الطاعة والحمد والشكر. وللأسف، تعمل ثقافة الحمد والشكر التي ترتع في أحضان صيغة الحسنات والصدقات السياسية على إعاقة الديمقراطية وتقليص خلق فرص حقيقية لتداول السلطة أو توفير مناخ إيجابي لتقسيم عادل للثروة والقوة في المجتمع. وكما انه لا يمكن دراسة علم اجتماع التخلف بمعزل عن فهم اقتصاد المجتمعات المتخلفة، فانه لا يمكن فهم إعاقة الديمقراطية بدون فهم علاقات الإنتاج الظاهرة والأخرى الكامنة التي تحدد مصائر الأفراد، وتوجه في نهاية الأمر سلوك الدولة حيال رعاياها في بيئتها الإقليمية والدولية. هذا الفهم يحدد القيمة المادية والمعنوية للعطايا السياسية وتأثيرها، والتي لا تشكل العطايا المادية فيها الا جزءاً يسيراً أمام العطايا المرتبطة بتوزيع القوة في المجتمع. وخلال العقود الماضية تعودت معظم الدول العربية على الصيغ التقليدية من الهبات والعطايا او الصدقات السياسية، التي تزكي من خلالها عن ميراثها في التسلط. واليوم، تحاول هذه النظم سحب مفهوم العطايا والصدقات على أية خطوة تقدم عليها للانفتاح على مجتمعاتها. ونذكر ان سعد الدين إبراهيم تعرض لحملة تشويه جديدة حينما طالب، قبل اقل من عامين، بان تربط المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة او أوروبا للدول العربية بمستوى ما تحققه كل دولة من تقدم على طريق الإصلاح والتنمية السياسية. وقد حرص إبراهيم آنذاك على التنويه بأن مصر حصلت خلال عشرين عاماً (1979-1999) على مساعدات من الولايات المتحدة تصل إلى ما يقارب ما حصلت علية أوروبا من مشروع مارشال بعد الحرب العالمية الثانية، لكن الولايات المتحدة راعت ان تخدم تلك الأموال بناء أجيال أوروبية جديدة تنهض بقيم الديمقراطية في مواجهة التيارات الشمولية، وخلال سنوات قليلة أسهمت تلك الأموال في تعميم الثقافة الديمقراطية بالقول والفعل في أوروبا الغربية، أما الأموال الأميركية التي ضخت خلال عشرين عاماً مضت في منطقتنا، فلم تكن معنية -بأي شكل من الأشكال- بالإصلاح او التغيير السلمي لأدوات إدارة السلطة، اللهم ترسيخ الأمر والواقع وإدارة الصراع لضمان استمراره. ويعود بنا ذلك الطرح إلى أمثلة أخرى؛ إذ يذكر الدكتور عبدالملك عودة، وهو احد الخبراء المصريين في الشؤون الأفريقية، أن العديد من الزعماء الأفارقة في سنوات المد القومي العربي التي شهدت النفوذ والسيطرة المركزية لمصر على القارة الأفريقية، كانوا يرفضون ان تحول المساعدات العربية، التي كان يأمر بها عبدالناصر، إلى بنوكهم او حسابات حكوماتهم، بل إن بعضهم كان يرفض مغادرة مطار القاهرة إلا بعد أن يتأبط الحقائب السوداء التي تحمل الصدقة السياسية التي اشترت ولاءات آنية لقضايا سياسية مركزية، ولم نلبث أن شاهدنا كيف استطاعت إسرائيل اختراق تلك الدول والأنظمة خلال سنوات قليلة. في المحصلة، نجد أنفسنا -بعد أربع سنوات من تجريب رفع أصوات الحناجر عالياً مطالبة بالإصلاح والتغير السياسي- أمام حالة تكيف سياسي وثقافي، تلاقي للأسف استجابة مجتمعية طوعيه لها. وأهم مبررات هذه الحالة يبدو في أن مجتمعاتنا لم تتعود التغيير السلمي بعد عقود من عصف الانقلابات والصراع الدموي على السلطة؛ ولذا فهي فرحة ومبهورة بمجرد الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وتمكين المرأة والإصلاح التعليمي ومحاربة الفساد. وأحياناً نجدها قابلة للاسترخاء أمام خطوات بائسة ومتواضعة، سرعان ما تنتكس بموجة من عنف السلطة. من هذا المنطلق، فان الخطاب الديمقراطي العربي الجديد بات مطالباً اليوم، بعد تراكم كمي واضح، بإحداث تغير كيفي، يقود نحو الاشتغال بالتفاصيل المحلية، بمعنى العمل إلى جانب تعزيز الوعي بإحداث تغيرات في هياكل السلطة إلى إحداث تغيرات في بنية المجتمع ووظائفه؛ والى جانب العمل على تنمية ثقافة سياسية جديدة، لابد من الالتفات إلى الثقافة الشعبية وتعظيم عناصر الإصلاح فيها. هنالك وجه للإصلاح السياسي مازال غائباً، وهو اقرب ما يكون وجها ذا طابع أنثروبولوجي مرتبطا بتفاصيل الحياة اليومية للناس والعامة الذين مازالوا يركنون إلى اعتقاد بان السلطة أسمى معرفياً وأخلاقياً من العامة، وان ما يحصل عليه المجتمع من حقوق هو منحة وليس حقا
0 comments:
إرسال تعليق