بات من الواضح أن النقاش الوطني حول فاتورة النفط في ضوء الظروف الدولية الراهنة، يتجه نحو تكوين قناعة مُرة لدى أطراف المجتمع والدولة حول استحقاق رفع الدعم عن أسعار المشتقات النفطية, وما يترتب عليه من متوالية ستنال أسعار مئات من السلع والخدمات, مما يعني أن الأردنيين مقبلون على شتاء قارس بعد أسابيع قليلة لا مفر منه. وبعد رفع الدعم الذي نفذ قبل اقل من ثلاثة أشهرعلى المشتقات النفطية ومرره الناس وتفهموا الأمر بأنه مصلحة وطنية صرفة, ورفع الدعم الذي انسحب على سلع أساسية أخرى, إلى جانب السياسات الاقتصادية ومسلسل الخصخصة وبيع ما تبقى من ممتلكات القطاع العام وآخرها جزء كبير من حصة القطاع العام في شركة الفوسفات بعد ان حققت هذا العام أعلى أرباح في تاريخها؛ يقف الأردن في مقدمة دول العالم التي بسطت ذراعيها لرياح العولمة الاقتصادية. مع انه لم يبق في الأردن أحد يطالب باقتصاد اشتراكي ولا حتى باقتصاد مختلط ، إلا أن سرعة وتيرة الاندماج في الاقتصاد العالمي جعلت السياسات والأرقام الاقتصادية الوطنية تدار إدارة يومية, كما كشفت عن ذلك تصريحات رئيس الوزراء ووزير المالية التي وضحت حجم الفجوة في إدراك صانع القرار لخارطة الاقتصاد الوطني مقابل الاقتصاد العالمي التي بنيت على أساسها موازنة العام الحالي. قامت الخبرة الاقتصادية الأردنية خلال العقود الماضية على مواجهة الأزمات الاقتصادية بالحلول السياسية من خلال ما امتازت به قيادة الدولة من قدرات استثنائية في جلب المساعدات الخارجية العربية والغربية, وما يجري اليوم يبدو في بعض ملامحه انعطافا تاريخيا في البحث عن حلول اجتماعية للأزمات الاقتصادية، وكما هو معروف فالحلول الاجتماعية قصيرة المدى ولا يمكن أن يلقى على عاتقها أعباء تفوق طاقة المجتمع على التحمل, وما زال الفكر الاقتصادي المحلي عاجزا عن إيجاد حلول اقتصادية للأزمات الاقتصادية، فبعد أن أفرغت الحلول السياسية وتآكل دورها بفعل محددات خارجة عن الإرادة الوطنية، لا يمكن الاتكاء على الحلول الاجتماعية فهناك حدود لصبر الناس وطاقاتهم على التحمل، صحيح أن الحكومة لم ترفع أسعار النفط، بل رفعت الدعم عنه نتيجة ارتفاع في الأسعار العالمية، وصحيح أن الحكومة في كل مرة تحاول إيجاد بدائل لوصول الدعم إلى الفئات الأقل رعاية والتي تستحق الدعم أكثر من غيرها، إلا أن هذا الدعم لا يصل لهذه الفئات التي تزداد فقرا وحاجة بفعل قسوة قانون السوق والاختلالات الهيكلية المزمنة التي يعاني منها الاقتصاد الوطني. يقال بأن الأزمة ليست أزمة الحكومة الحالية، بل أزمة عالمية؛ وهي في الحقيقة أزمة حكومات متتالية والتي جعلت نصيب فاتورة النفط تأكل حصة كبيرة من الناتج الوطني الإجمالي تفوق خمسة أضعاف معدلاتها في بعض الدول النامية, وهي أزمة الدولة الأردنية التي يجب أن تقف كل مؤسساتها بجرأة وتعلن الطوارئ الاقتصادية كما طالب جلالة الملك, والتي تتطلب في اقل تقدير أن لا تبقى الحكومة الحالية تحطب لشتاء الأردنيين القادم بإلقاء اللوم على الآخرين، وان تبدأ بإصلاحات حقيقية تنال الاختلالات المزمنة في الأداء الاقتصادي الأردني، وتتطلب من البرلمان رقابة صارمة وحقيقية بعيدا عن المطالب الخدمية الصغيرة على مالية الدولة وعلى تنفيذ الموازنة العامة. إن التفسيرات المبسطة والدرامية أحيانا التي تحيل الأزمات الاقتصادية الاجتماعية المحلية إلى الحقل الخارجي هي أقرب ما تكون إلى رغبة يكررها صناع القرار في كل مرة تحاول إدخال الدولة الأردنية في حلقة مفرغة مركزها الاقتصاد السياسي العالمي والإقليمي، في محاولة متكررة لتجنب البحث في الاختلالات المحلية والوقوف في وجهها، وهي حلقة تاريخية اتجهت دوما نحو الانشغال في تفاصيل تراكم التدفقات الخارجية على أهميتها التي يفرضها طبيعة النظام الاقتصادي العالمي، واغفلت النظر إلى أحوال التراكم الداخلي، وهو التراكم الحقيقي الذي يخلق التنمية ويوفر الحصانة أمام التحولات العالمية ويقلل من قسوة آثارها على القواعد الاجتماعية. وبالعودة إلى خطة الطوارئ الاقتصادية الوطنية التي تتطلبها المرحلة، فإنها أحوج إلى أن تدار بعيدا عن الإدارة الإعلامية اليومية، فهي بحاجة إلى إدارة اقتصادية اجتماعية تستجيب إلى حاجات الناس قبل رغباتهم ولحساسية موقف الدولة الأردنية في هذه المرحلة، تحتاج إلى وقف الارتجال السياسي والإداري وإلى بناء تراكم إنتاجي وطني حقيقي والى إصلاح النظام الضريبي واعادة الفاقد منه الذي يصل إلى أكثر من نصف مليار دينار سنويا وعمل على مدى سنوات طويلة على تدمير طبقات اجتماعية وبناء طبقات طفيلية صغيرة أثرت على حساب إفقار الآخرين. وتحتاج مع هذا وذاك إلى مراجعة جريئة لنتائج الاندماج المتسارع في العولمة الاقتصادية وانعكاس ذلك على الواقع الاقتصادي والاجتماعي المحلي. الناس اليوم بحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى ان يشعروا بقدرة الدولة على مواجهة التحديات التي تعصف بمفردات حياتهم اليومية
0 comments:
إرسال تعليق