في المؤسسات الأكاديمية، وفي حلقات البحث المغلقة، كما في التقارير المحدودة التداول، يحاول البعض اختراع أطر نظرية جديدة لتفسير الأحداث، وإضفاء صبغة من الدهشة والانفعال حولها. ولم تنج الحروب والصراعات الجديدة من محاولات متكررة تلبسها أردية تطول وتقصر، حسب مقاسات المصالح ومواعيدها؛ وهذا ما يفسر صراع الأفكار الذي ساد بين مدارس متعددة طيلة القرن العشرين حول قيمة الجغرافيا السياسية وأهميتها في حركة التاريخ، وفي تفسير الأحداث والصراعات والحروب، وهو الأمر الذي يعود اليوم إلى الواجهة مجدداً منذ انهيار جدار برلين إلى صعود جدار شارون، مروراً بحروب البلقان واندلاع الثورات الناعمة، وليس انتهاء باحتلال العراق والحرب الدائرة هناك دون بارقة أمل في الأفق باقتراب نهايتها. منذ انتصارات الاكتشافات الجغرافية، وتمدد الكرة الأرضية، وإعادة اكتشاف العالم من جديد، استقرت مجموعة من الآليات التي تحدد الكثير من سلوك الدول في البيئتين القريبة والبعيدة منها. ولعل الجغرافيا السياسية التي ابتلعت التاريخ في القرن السادس عشر، وانتصرت لموجة الفلسفات الكبرى آنذاك -بمقولاتها التقليدية ويقينها المفرط بالوعي بقيمة المكان- هي اكثر من غيرها التي تحدد اليوم اتجاهات عقارب الساعة السياسية في يد الرئيس الأميركي ومواقيت البدء والحسم، وهي التي تحدد -اكثر من غيرها أيضا- جدول مصالح البيت الأبيض. وهذه هي الحقيقة التي نحاول أحياناً التغافل عنها كلما داهمتنا الأحداث غير المتوقعة، في محاولة لإيجاد منطق جديد لتفسيرها. لقد حددت المصالح التي تفرضها الجغرافيا ملامح المشروع السياسي الألماني منذ بسمارك مروراً بالتعبير الأوضح والأكثر فجاجة عنها في زمن الرايخ الثالث ضمن استراتيجيات النازية، وهي ذاتها ملامح المشروع الذي عبر عنه المستشار شرودر، والتي ستعبر عنها المستشارة الجديدة. كذلك هو الحال في المشروع الفرنسي الذي تلمح فيه حروب نابليون ووجه روبسبير وافكار فلاسفة الدولة الكبار، ضمن استمرارية تنسج بحكم ضرورات المصالح المرتبطة بالموقع والكتلة الحيوية والجيران الكبار، لتستمر هيمنة الخرائط في مشروع ديغول ومشروع دستان، وصولاً الى شيراك والجمهورية الراهنة. في عقد التسعينيات من القرن الماضي سادت اتجاهات فكرية تحاول ان تعترف بعودة دور الجغرافيا السياسية الحاسم في الاستراتيجيات الدولية الجديدة؛ ولكن بالتأكيد على ان هذا الدور قد تغير، من جغرافيا التضاريس الصلبة إلى جغرافيا الحدود الشفافة؛ بمعنى أن الدول الكبرى، وفي مقدمتها الدولة العظمى، ليست بحاجة إلى شن الحروب وتحريك الجيوش والحملات العسكرية لتحقيق المصالح أو تأمينها، ذلك ان المعطيات التي وفرتها الموجة الجديدة من العولمة وانهيار الحدود التقليدية توفر للدول أدوات جديدة لاختراق الحدود، التي أصبحت شفافة ووهمية، دونما حاجة إلى جيوش جرارة وقوة تدخل مباشرة. وبحسب تايلور، اشهر منظري الجغرافيا السياسية الجديدة، فإن الحدود الشفافة يقصد بها الهيمنة الأميركية، الاقتصادية والعسكرية والثقافية، دون حواجز حدودية؛ وبعبارة أخرى: "جغرافية السيطرة من دون إمبراطورية"، أي أن يصبح العالم كله عبارة عن مجال حيوي للولايات المتحدة، بالاعتماد على مبدأ اللا مواجهة الذي توفره التكنولوجيا المعاصرة وتطبيقاتها الممتدة من الحروب الإلكترونية وصولاً إلى الهيمنة الإعلامية! هكذا يبدو العالم بلا خرائط أمام الولايات المتحدة؛ فالحدود الشفافة تجعلها تصل إلى أي مكان دون عناء الجيوش وعسكرة الحدود، وإذا اضطرت للمواجهة التقليدية، فإنها ملزمة أخلاقياً وحضارياً بعمليات وحروب خاطفة وسريعة، للحظة محدودة، ولحالات إنسانية أو انتصاراً للحرية وحقوق الإنسان والدول.بينما كان التنظير السابق حول نظرية الحدود الشفافة يسهل تصديقه في السنوات القليلة الماضية، فإن المهمة السريعة والعاجلة للجيش الأميركي في العراق باتت اليوم تُكذب خداع هذه النظرية، وتعود بنا من جديد إلى اعتبارات الجغرافيا السياسية التقليدية، وان اختلفت مناخاتها وتنوعت مزاجات الدول في التعبير عنها. فبالرغم من الهشاشة الاستراتيجية لمواقف أطراف الصراع في العراق، وبالرغم من الترهل السياسي والانفلات الأمني الذي أدخلت المهمة العاجلة التي لا تنتهي المنطقة في أتونها، فإنه -ومن منظور الجغرافيا السياسية السائدة اليوم- اصبح العراق قلب العالم الذي يحدد الكثير من اتجاهات ومسارات الأحداث الراهنة والمستقبلية. وفي المقابل، يعاد ترتيب الأفكار في العديد من جهات العالم وفق منطق التضاريس والكتل الحيوية للبحار وبحيرات النفط وفواصل اليابسة. ففي روسيا اليوم، تذهب الجغرافيا السياسية إلى دغدغة أحلام الروس من جديد بالعودة إلى نظرية السير ماكيندر، التي أفصح عنها في مقالته الشهيرة "المحور الجغرافي للتاريخ" العام 1904، والقائلة بأن السيطرة على العالم تبدأ من السيطرة على اليابسة الاورواسيوية. فأنصار هذا الاتجاه ازدادوا خلال السنوات القليلة الماضية بشكل واضح، وأصبحوا أكثر من نصف مجلس الدوما الروسي، تغذيهم أفكار بطرد النفوذ الأميركي من أوروبا بالاعتماد على مقولة إن روسيا ليست بحاجة إلى الولايات المتحدة لاستعادة مكانتها التاريخية. ويعد هذا الطرح، منذ تسعينيات القرن الماضي، نقطة الالتقاء المركزية بين اليمين المحافظ واليسار المتشدد في روسيا ما بعد السوفييت. وعلى الرغم من كون عودة التنظير حول أهمية الجغرافيا السياسية تعني الانتصار للمكان على حساب الزمان، أو بكلمات أخرى إبطاء أولوية فكرة التغير عبر الزمان، فإن منطق الجغرافيا السياسية في طبعته الجديدة يعيد إحياء أفكار تلتقي على مسطرة الفكرة المركزية لصراع الثقافات! فهذا هو المفكر اليساري الروسي جينادي زيوجانوف، يحرض روسيا على توحيد العالم الأرثوذوكسي، وإقامة صلات قربة مع المسلمين لمحاربة ما يسميه "الصراع الطبقي الكوني". وبحسب تعبير زيوجانوف، زعيم الحزب الشيوعي الروسي، اكبر مؤسسة حزبية في روسيا اليوم، فإن الروس يعيشون اليوم عصرا تسيطر عليه اعتبارات الجغرافيا السياسية، وان تجاهلها لن يكون مجرد خطأ، بل جريمة تاريخية. في هذه الأثناء التي يزداد فيها هاجس تقريب المسافات ويضيق فيها حجم العالم، تخدعنا الجغرافيا السياسية تحت دفع سياط التنظير حول العولمة ومقولات قرية العالم، إذ يزداد الشعور بالضيق من الآخرين، ويصبح هاجس الصراع يتشكل حول "من أنت؟". وكالعادة، فإن حمى التبدل في أدوات الصراع تكرر الحكاية ذاتها حينما تكذب النتائج المقدمات؛ فالقرية الكونية المشمسة تتفسخ أركانها، وتكتسي لون الهوية تارة والمزيج الثقافي تارة أخرى في سبيل إخفاء صراع الأمكنة والرغبة في الاستحواذ والسيطرة، وكأن العالم يمتد فوق بحر من القلق، تشعله نيران النفط والغاز والأنابيب على ضفاف الخليج وبحر قزوين وشواطئ المتوسط، وعرق العمال الرخيص في تخوم البحر الأصفر
0 comments:
إرسال تعليق