ما زالت مخاضات التغيير في الأردن تتجاذبها تصورات قلقة وغير مستقرة. ومع انفتاح البلاد الواسع على الاقتصاد العالمي وعلى تيارات العولمة بمفهومها الواسع، مازلنا نفتقد لرؤية واضحة تتلمس أطراف المستقبل. وتنسحب هذه الصفة على طرفي معادلة النقاش الوطني، المجتمع والدولة، كلما فتح ملف جديد من ملفات التغيير تحت عناوين الإصلاح والتحديث تارة، او إعادة إنتاج الاستقرار تارة اخرى. فلا دعاة الاندماج في السوق العالمية تحت عناوين الإصلاح، ولا المعارضون لهذه التوجهات يملك أي منهما رؤية واضحة ومحددة تتمتع بالحد الأدنى من الإقناع او محاكاة واقعية وعقلانية لأحوال الأردن وموقعه في الاستراتيجيات الدولية والإقليمية، كما إمكاناته الداخلية. قبيل الإعلان الرسمي عن مضامين الاجندة الوطنية، التي تعني خطة لمستقبل البلاد لعشر سنوات قادمة، باتت معظم التعليقات والآراء تصبغ هذه الاجندة ومخرجاتها -التي لم تتضح في اغلب الملفات- بلون أحد تيارات النقاش العام، مقابل ازدياد الحديث عن قوى شد عكسي تنمو وتتهم بعرقلة جهود الإصلاح. وعلى الرغم من أن الشرعية الحقيقية التي تحتاجها أية رؤية مستقبلية هي، أولا وأخيرا، الشرعية المجتمعية التي تنطلق من خصوصية الواقع الأردني وإمكاناته الحقيقية وحساسياته الجغرافية والتاريخية، فان هذا الواقع يتطلب ضرورة الاعتراف بحجم التعقيد والتركيب الذي تتسم به الملفات الأردنية في بيئة مضطربة، تشتبك مع طوارىء مزمنة وتنتظر حلولا تاريخية وليس حلولا يومية لمشاكل طارئة. في هذا السياق تبدو التداعيات المحلية الأخيرة حول مجموعة القضايا التي طرح بعضها فجأة وفي خارج السياق المتوقع، وبعضها الآخر استمرار لسياسات متوقعة لكنها تأتي في سياق انغماس مندفع في هذه السياسات، على غرار الاستمرار في الخصخصة وتخلي الدولة عن دورها وما تثيره من تساؤلات عن شهية مفرطة في هذا الاتجاه لعلها تفوق شهية المرحلة التاتشيرية المعروفة بسياساتها في هذا المجال، إذ تنسحب هذه التساؤلات على خصخصة ما تبقى من ملكية القطاع العام في شركة الاتصالات وخصخصة ما تبقى من شركة الفوسفات، وتغيير طرق إدارة أموال الضمان الاجتماعي، وبعضها قطاعات استنفدت أغراض الخصخصة وحققت المراد منها، ولا تعني خصخصتها إلا توفير سيولة مؤقتة من الأموال على طريقة مفلس يبحث عن ما تبقى قابلا للبيع في إرثه. وفي المقابل، تبدو الخلخلة في أرقام المساعدات الخارجية والتوجه نحو إلغاء إلزامية العضوية في النقابات، ابتداءً من نقابات الصحافيين خارج السياق اليومي، ولكنها داخل النص الأيديولوجي. تفسر الأحداث أحيانا بالأحداث، أي بما تأتي به الأيام من تطورات تحسم الصراع في وجهات النظر. واليوم يتردد لدينا أكثر من وجهة نظر تفسر التحولات الأردنية، بزخمها وأزماتها المتتالية وحساسيتها المفرطة بالاشتباك مع الخارج. المدخل الأول يقدم رؤية تفسيرية تنطلق من انشغالات العصر والتحولات الجذرية التي تعصف بالعالم، ويذهب إلى أنه لا مكان في العالم الجديد لمن لا يقبل التغيير والانفتاح والتكيف مع الحقائق الجديدة في الاقتصاد والإدارة والمجتمع. ويرى الاتجاه العالمي أن المستقبل اقرب كلما ازداد الاندماج بالعولمة وما تعنيه من فرص. أما المدخل الثاني، فيرى أن التحولات الأردنية تأتي في سياق الاستجابة للمشروع الأميركي لإعادة صياغة المنطقة وحسم ملفاتها العالقة واعادة ترتيب أولوياتها، مما يستدعي الدخول في حالة تكيف إيجابي، تعظم من الفرص الممكنة وتقلل من المخاطر المتوقعة. أما المدخل الثالث، فيعيد صياغة الموقف على أساس ان البلد يتعرض لضغوطات واسعة، وأنه استنفد المتاح أمامه من المناورة. وهذه الضغوطات، دولية وإقليمية، بعضها موضوعي يتطلب استجابة موضوعية، وبعضها ابتزازي يتطلب حكمة تاريخية، وجميعها ترتبط بتطورات الأحداث وموقع الأردن منها، ما يطرح سلسلة من الصفقات والمقايضات غير المتوقعة. ويتحدث هذا المدخل عن خلفيات تراجع المساعدات الخارجية وانكماشها الحاد والمفاجئ، وعدم حصول الأردن على أسعار تفضيلية، ولو بالحد الأدنى من نفط الأشقاء والأصدقاء التقليديين. وفي الوقت الذي يحاول خطاب الإصلاح المحلي تأطير فعالياته في سياق تداعيات الداخل الأردني والتقليل قدر الإمكان من ارتباط الملفات المحلية بالمحيط الإقليمي والإطار الدولي، فإن الوقائع والنتائج لا تصدق المقدمات، فما يطرح في معظمه يرتبط بالطوارئ الإقليمية أكثر من أي وقت مضى. وبوضوح أكثر، فان المناقشة الأردنية الدائرة منذ سنوات، بما يشوبها من غموض، تختصر في طرفها الرئيس برؤية تقرأ تفاصيلها من المدخل السياسي أكثر من أي شئ آخر، وان بدت لدى البعض انعكاسا لتيار الليبرالية الجديدة وزحف العولمة واولوياتها الاقتصادية، وطرف آخر لا يملك رؤية واضحة ومحددة سوى استمرار الوضع الراهن. ويغيب بشكل او بآخر خط أردني ثالث، يمثل بوضوح البعد الاجتماعي والنظام السياسي ومستقبل الدولة، ويبحث في استمرارية توازن الطبقات وانعكاسات كل ذلك على مصير المجتمع ووعيه وعلاقته بالآخرين، ويدعوه إلى تحمل مسؤولية العلاقة بالخارج، ويعمل على إصلاح اقتصاد السوق من دون الحاجة لالتهام الدولة، ويدفع نحو التنافسية وتعزيز مبادىء الاختيار الطبيعي وقيم الحرية والحقوق السياسية والحريات المدنية، من دون هدم المجتمع الأهلي وتفكيكه. وبعبارة أخرى، قبول اقتصاد السوق ورفض مجتمع السوق
0 comments:
إرسال تعليق