في الأسابيع والأيام القليلة السابقة على صدور تقرير القاضي الألماني دتيلف ميليس في قضية اغتيال الرئيس الحريري، جرت واحدة من عمليات التعبئة السياسية والاعلامية الواسعة التي وضعت المنطقة كلها في حالة انتظار لعملية تغيير تاريخية ستنال نظم وحكومات ورؤوس وأقدام، ووصل الأمر بان صباح الجمعة الحادي والعشرين من تشرين الأول سيكون يوما فاصلا وبداية الزلزال المنتظر، فالبعض أعلن بأنه يوم سيؤرخ به, وآخرون رأوا فيه مشهد الرؤوس التي أينعت وهي تقطف, وأصرت فئات أخرى قبل صدور التقرير وكشف محتواه بأنه محاولة لاغتيال الحقيقة. وصدر التقرير غير المكتمل وتم منح ميليس ورفاقه مهلة أخرى إلى شهر كانون الأول القادم لاستكمال إجراءات التحقيق ودخلت المنطقة "مرحلة ميليس" التي بدأت بقراءات متعددة ومتفاوتة لمضامين التقرير, والذي اقل ما يقال فيه انه حمال اوجه على الرغم من كونه حمل إشارات خطيرة يصل بعضها إلى مستوى الأدلة التي تجرم رؤوس في السلطة في كل من سورية ولبنان، ويبقى لنا انتظار التداعيات التي ستتلاحق خلال الأسابيع السبعة القادمة وعلى أساسها سوف تصدر الطبعة النهائية من التقرير وفي وسط هذه التداعيات السابق منها وما سيأتي خلال الأيام القليلة القادمة لا جديد متوقع أكثر من إتمام ترتيبات الصفقة السياسية التي تناولتها الأخبار خلال الأيام القليلة الماضية بعد ما وصل إلى قناعة الولايات المتحدة ضرورة استبدال "سلة العصي الغليظة" التي كانت تلوح بها في وجه سورية بأخرى من العصي الناعمة وقليل من نتف الجزر، فالعصي الناعمة لا تحدث جلبة ولا تثير الرعب والخوف للوهلة الأولى, لكنها أكثر ألماً. تدرك واشنطن أكثر من غيرها في العالم أن الهزيمة المطلقة او الانتصار المطلق كل منها يؤدي إلى طريق وعر ومسدود, ليس في وجه المهزوم وحده، بل والمنتصر أيضا، وتدرك أيضا حسابات الجغرافيا السياسية التي تمثلها سورية في قلب الشرق العربي بعد ما أصبحت الولايات المتحدة تملك أطول حدود في مجالها الحيوي الخارجي معها والذي يتمثل في الحدود السورية- العراقية بعد الاحتلال، الأمر الذي يحمل مضامين مفتوحة لا يمكن توقعها فيما يخص حركة الشارع والشعوب العربية، تجتمع هذه الأسباب إلى جانب رفض واضح خلال السنوات الماضية من قبل تركيا ومصر والسعودية ودول الجوار الأخرى لاستخدام القوة في تغيير النظام السوري. ومنذ صدور قانون محاسبة سورية في عام 2003، أبقت الولايات المتحدة الأفق السوري مفتوحا على كل الاحتمالات , مما يجعل المراقب يعتقد للوهلة الأولى بان ثمة فراغ سياسي جدي اتجاه سورية؛ أي أن الولايات المتحدة قد بقيت خلال العامين الماضيين تفتقد لإطار سياسي مكتمل, او بناء استراتيجي محدد الملامح لخطوات واضحة تتابع في الملف السوري حيال قضايا القلق الأميركي المعلنة والتي تمتد من التدخل في الشؤون اللبنانية والعلاقات مع حزب الله وإيواء المنظمات الفلسطينية ودعمها وصولا إلى التدخل في الشؤون العراقية وعدم ضبط الحدود إلى ملف الإرهاب، في حين تتراجع فيه الملفات السورية الداخلية المرتبطة بحقوق الإنسان وضرورات الإصلاحات الداخلية والحكم الشمولي وتوظف في مجالات محدودة, بل تظهر أحيانا نغمة أخرى تدور حول حكم أقلية طائفية لأغلبية سنية منذ عقود, عكس ما كان يحدث في العراق وربما نجد صدى هذه النغمة غير المرغوبة اميركيا في أن أحد سيناريوهات التغير في سوريا تتحدث عن دعم تمرد داخل الطائفة العلوية ذاتها، وهو اتجاه لدى فئة من الخبراء الأميركيين الذين رددوا التعبير عن يأسهم من قدرة الرئيس بشار الأسد على إحداث تغيرات جدية، وهذا ما يعيدنا إلى الصور التي وضعها أحد الباحثين في مركز صبان للشرق الأوسط التابع لمؤسسة بروكينفز للأبحاث (فيليب ليفيريت) والذي تحدث عن ثلاث صور للرئيس الأسد تتردد في المنطقة, أولها انه إصلاحي محاصر من قبل الحرس القديم, والصورة الثانية يرى فيها بشار ابن أبيه وابن نظامه، أما الصورة الثالثة فيٌرى فيها " أن بشار الأسد يفتقر إلى الخبرة وغير قادرعلى ممارسة لعبة المناورات الإقليمية بالحكمة نفسها التي كان يتميز بها والده". وعلى الرغم من كون مهمة القاضي الألماني واللجنة الدولية للتحقيق في اغتيال الرئيس الحريري كانت وما زالت تهدف إلى تقصي الحقيقة والكشف عنها، إلا أن الوقائع ومحددات البيئة الدولية لا يمكن أن تفصل هذه المهمة عن الشروط السياسية التي تجعل حتى قراءة "التقرير الفني" سياسية في المقام الأول. فمنذ حادث الاغتيال في شباط الماضي وقرار مجلس الأمن وخروج القوات السورية من لبنان توالت حوادث التفجيرات التي وصلت إلى 14 تفجيرا في لبنان وجميعها استهدفت مناهضين لسورية في لبنان، مما يوفر المزيد من المسوغات للقراءات السياسية ويوفر المزيد من التوقعات أن يتحول هذا التقرير وما سيفضي إليه من نتائج إلى أداة سياسية لممارسة المزيد من الضغوط لإتمام ترتيبات سياسية ستكون بداية لأيام حاسمة, ولكن ليس على طريقة التوقعات التي يتحدث عنها البعض. الخبرة الأميركية في التعامل مع سورية تعرف حدود الممانعة وإمكانيات المرونة, فلقد تعاونت سورية مع الولايات المتحدة ضد تنظيم القاعدة ولديها سجل معروف في التعامل مع الأجهزة الأميركية وأحبطت عمليات ضد الولايات المتحدة ولبت في السابق مطالب أميركية معروفة، والمطلوب اليوم صفقة شاملة تقود إلى تسوية مع إسرائيل وضمان استقرار الأوضاع في العراق. فالأحداث تتسارع بسرعة تفوق أحيانا المتوقعات ومصادر الخوف على سورية تتعدد وتتشابك في ضوء المحددات الإقليمية والدولية ونفاذ الوقت وضيق مساحة المناورة، إلى جانب الضعف والهشاشة التي أخذت تعلن عن نفسها في صفوف النخب السياسية بالانتحارات او التصفيات.سورية اليوم أمام خيار استراتيجية الهروب النظيف والتي تعنى بالدرجة الأولى تقديم الجناة في جريمة اغتيال الرئيس الحريري إلى العدالة قبل انتهاء القاضي الألماني من مرحلة تحقيقاته الثانية أي بمبادرة ذاتية, والالتفات إلى الداخل والعودة إلى الشعب السوري بأحداث إصلاحات جذرية داخلية تعيد ضبط ساعة الحقيقة على التوقيت المحلي, بدل أن يعاد ضبطها من الخارج.كاتب أردني
0 comments:
إرسال تعليق