الغد:27/10/2012
وأخيرا، ضرب الإرهاب القادم عبر الحدود الأردن، مستهدفا قلب عمان ومراكز عصبية لا يمكن لأية استحكامات أمنية في الدنيا أن تحصنها إذا ما أراد الغدر الوصول إليها! الصدمة اكبر من حجم ردود الفعل وتداعياتها، وتاريخ الأردن النظيف من أعمال العنف ومنظمات الارتزاق والمتاجرة بالدين لا يعني أن البلاد قلعة محكمة لا يدخلها ولا يخرج منها احد، بل إن من جعل الأردن واحة للأمن -كما يقال، وكما يرغب الأردنيون ان تسمى بلادهم وسط حرائق تطال ألسنة نيرانها كل شيء حولهم- هم الأردنيون أنفسهم، الذين لم يتمكن القريب ولا البعيد من اختراق صفوفهم خلال سنوات الرماد العربي الماضية. وفي ضوء ذلك، فإذا كانت تفجيرات عمان الإرهابية تحمل رسائل، فهي أول ما تحمل رسائل حنق وضيق من الشعب الأردني الذي صنع واحة الأمن، وصاغ مجتمع الاعتدال والتسامح، فلم يجد الإرهاب الا استهداف الناس العزل، وتفاصيل حياتهم اليومية!ولان الأردن كان الوحيد في المنطقة الذي لم يترك المجال مفتوحاً لنمو التطرف وتفاقمه، ولم يدع الظروف تسهم في نمو خرائب وعشوائيات في أذهان الناس وفي معاشهم -رغم كل ما يقال عن التكوين الديمغرافي وحساسية موقعه الجغرافي، ورغم ما يقال أيضا عن الطريقة التي ترى فيها التنظيمات الإرهابية وقوى التطرف قيم النظام السياسي الأردني وسلوكه- فان هذه العمليات لا يمكن أن تقرأ إلا في ضوء شبكة التعقيد السياسي والاستراتيجي الإقليمي الذي وصل خلال الأسابيع والشهور القليلة الماضية إلى مرحلة متقدمه من الاشتباك والتعقيد، وتناقض المصالح وتضاربها.نعلم بأن تنظيم القاعدة أصبح اليوم ثوبا فضفاضا يمكن لكل من هب ودب أن يلبسه، او أن ينتسب اليه، او ينسب إليه؛ ونعلم أن الإرهابي "الزرقاوي" له ألون متعددة، وخلفه أشكال من الأساطير والأحاجي؛ وعلى كل الأحوال، فإننا نجد كل العمليات التي أحبطت منذ مطلع تسعينات القرن الماضي وحتى عملية ليلة الخميس، عمليات عابرة للحدود في مرجعياتها وفي الإعداد لها وتجهيزها وتنفيذها؛ مما يعني -أردنيا على أقل تقدير- أن لعبة الحدود المفتوحة، و"الدلال" في حركة العبور واللجوء قد انتهت. لن نقول مثل الآخرين إننا كفرنا بالعروبة والوقوف خلف قضاياها بالرجال والدم والرؤية والموقف؛ ولن نقول إننا لم نحصد إلا النكران والدمار، بل كل ما يريده المجتمع الأردني هو العودة إلى نظرية الحسم التي عُرف الأردن بها في سلوكه الأمني عبر عقود من الزمن. وهذه النظرية تعني الكف عن التردد والانتظار، كما تعني مسك زمام المبادرة والتحصن بالبعد المجتمعي الأردني قبل أي شيء آخر، أي ان لا ننتظر اي استثمار سياسي في هذا أو ذاك؛ بمعنى آخر، العدالة على الطريقة التي يفهمها جيداً أصحاب نظرية (الأفعال التي يشيب لها الولدان) وغيرهم.يتحدث العالم في هذه الأثناء عن انتقال الإرهاب الدولي إلى مرحلة جديدة، تتلخص في تحويل المنطقة بأكملها إلى كتلة ملتهبة، ويتم استعادة الوعيد والتهديد بالوصول إلى عمق المناطق الحساسة المحيطة بالأراضي الفلسطينية المحتلة، بهدف إضفاء روح جديدة على عقيدة الإرهاب والقتل المجاني التي أفرغت من أي مقوم أخلاقي. ولعل تفجيرات عمان تثبت بالدليل القاطع إفلاس عقيدة الإرهاب، والتي لم تجد لها ملاذاً إلا في قتل الناس وترويعهم في حفل زفاف! بمعنى أن النتيجة الأولى التي نتوصل إليها من وراء هذه التفجيرات تدل على أن مرحلة من عمر الإرهاب الدولي قد انتهت بالفعل، وأن مجانين أصبحوا في مواجهة المجتمعات الإسلامية نفسها؛ المجتمعات التي حملت الإسلام الحقيقي المنزه عن كل الشبهات، والبعيد عن كل مزادات الارتزاق والتوظيف السياسي ودبلوماسية الدماء! ينتقل الإرهاب الدولي من عمان إلى مرحلة جديدة، تعلن نهاية الوظيفة الجهادية التي طالما توارت خلفها هذه الظاهرة.في المحصلة، هناك ثلاث خلاصات أساسية تضع عمليات عمان الإرهاب العابر للحدود الدولية أمامها: الخلاصة الأولى، نهاية الوظيفة الجهادية لهذا التيار التاريخي؛ والخلاصة الثانية، انتقال العمق المجتمعي في العالم العربي والإسلامي من أداة تلوح بها هذه التيارات الى أداة مقاومة لها، والنموذج الاردني هو المرشح لتجسيد هذه النتيجة؛ اما الخلاصة الثلاثة، فتبدو في ان الكثير من الغموض حول سلوك المنظمات الإرهابية ودوافعها سوف يبدأ بالانجلاء قريبا. في حين تتجسد الخلاصة الأردنية بان تكون العدالة بحجم الصدمة.
0 comments:
إرسال تعليق