الغد: 16/10/2012
العارفون بشؤون السياحة الأردنية وشجونها يدركون أننا نتلقى النتائج أكثر مما نصنع الأفعال في محيط إقليمي بات يشهد ازدحاماً وتنافساً في جلب المنافع الاقتصادية، مع ارتفاع وتيرة الحساسيات السياسية والأمنية وحتى الثقافية. ولعل قطاع السياحة واحد من بين أهم القطاعات التي تطبخ على نار هادئة، وينالها الرصاص الطائش أكثر من غيرها من كل الاتجاهات. وفي الوقت الذي دشنت فيه دول إقليمية لا تزيد عنا شيئاً في عناصر الجذب السياحي المتوفرة لها، خبرة واضحة في مواجهة حالات الطوارئ وما يسمى الخراب السياحي، وإيجاد الأسواق البديلة، وبناء الأفكار وبرامج الترويج النوعية الجديدة، لا يزال مستقبل هذا القطاع لدينا يشوبه الغموض والتردد، والغياب الواضح والصادم في نفس الوقت لعناصر الاستدامة في التعامل مع الموارد التراثية، مع سيادة نظرة استهلاكية نفعية ضيقة؛ وخير مثال على هذا الوصف الخبرة الحكومية في التعامل مع مدينة البتراء على مدى أكثر من عقد مضى. المقصود في المحصلة، أن الربع الأخير من العام الحالي سجل فشلاً واضحاً للموسم السياحي بالنظر إلى ما يشهده عادة، وبالتحديد السياحة الغربية -التي هي عماد السياحة في الأردن- في رم والبتراء ومادبا وجرش وغيرها. وهذا الأمر غير مرتبط بشكل مباشر بأحداث التفجيرات الإرهابية التي شهدتها عمان -على أهميتها- بل يمكن إيجاد التفسير الموضوعي له بالانتعاش الذي شهدته السياحة خلال هذا العام، والذي جاء نتيجة خراب كبير شهدته أسواق عالمية عديدة، أهمها أسواق شرق آسيا. إذ من المعروف أن السياحة العالمية تبحث دوماً عن أسواق بديلة إذا ما ضربت أسواقها التقليدية. والذي حدث أن تلك الأسواق، ومع اقتراب أعياد الميلاد، بدأت تستعيد حيويتها بعد أن بذلت الدول المتضررة من الكوارث الطبيعية جهودا جبارة لاستعادة عافية أسواقها السياحية، في حين تلقينا النتائج ولم نبذل جهوداً حقيقيةً للحفاظ على ديمومتها، مع تواضع حجم هذه النتائج مقارنة مع الآخرين. وبالعودة إلى الاستراتيجية الوطنية للسياحة، وما تحمله من غموض وتناقضات وأرقام أثرية عفا عليها الزمن، نلاحظ نبرة واضحة عبرت عنها نخب حكومية سابقة تدعو إلى خصخصة بعض المواقع التراثية! وهي ان لم تقلها مباشرة، فإنها كانت واضحة في سلسلة من الإجراءات والسياسات التي تلمس بشكل واضح في البتراء، حيث تعرضت هذه المدينة التراثية والسياحة فيها إلى إهمال شبه مقصود، بهدف الوصول إلى الذي لا بد منه؛ أي خصخصة بعض الخدمات في البداية، وصولاً إلى خصخصة إدارة الموقع بأكمله! كنا نتحدث في التسعينيات عن التوظيف السياحي الإسرائيلي للسياحة الأردنية، وكيف كان يروج للسياحة الإسرائيلية من خلال البتراء دون أي عائد حقيقي. وحينها، كنا نقول بان نصيبناً من السياحة الإقليمية لا يتعدى عوائد هامشية من وراء الأفواج السياحية التي تنظمها المكاتب السياحية الإسرائيلية. أما في السنوات القليلة الماضية، فقد أخذت الأمور منحنى آخر بعد ظهور منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة، ويكفي في هذا المجال التدليل بمثال واحد حول السياحة القادمة من دول أوروبا الشرقية، وبالتحديد سياحة الهنغاريين وغيرهم. وهي نوع من السياحة الرخيصة التي لا يجدها الأردنيون في وطنهم، والتي تنظم بكلف زهيدة وبامتيازات خاصة من خلال رحلات طيران عارضة. إذ تتمتع الشركات الناقلة بفوائد عدم وجود رسوم استخدام المطارات، ومن إعفاءات ضريبية أخرى. والمهم أن هذا النمط من السياحة يكفل للسائح زيارة البتراء ورم دون المبيت، والمغادرة مباشرة إلى العقبة. بمعنى أن مناطق الجذب السياحي الاردني، وما يتوفر فيها من بنى تحتية، تتعرض للاستهلاك المستمر دون أن تجني أية فائدة حقيقية! لقد اختصرت الحكومات السابقة قصة البتراء في مشكلة عدد صغير من ملاك الفنادق المدينين، ومارست في الوقت نفسه نمطاً من الإهمال الواضح لأهم مدينة أثرية متكاملة في الشرق الأوسط، ظهر في تردي جهود حماية آثارها التي تتعرض للتخريب والتدمير المستمرين، وفي تواضع تنمية السياحة والترويج لها، وكأن قطار الإهمال يساق عنوة إلى خلاصة الخصخصة التي تتحدث عنها استراتيجية السياحة. نفهم أن التحول إلى إدارة القطاع الخاص أو بيع بعض القطاعات المتعثرة يمكن أن يجد بعض التبريرات، لكن لا يمكن لأي عاقل تصور فرض إدارة القطاع الخاص على تراث الوطن، وجزء أساسي ومهم من مزيج هويته الوطنية. إن مفهوم الاستدامة في إدارة المواقع التراثية يعد في المحصلة مفهوماً تنموياً في الأساس، ولا يمكن تصور صناعة سياحية حقيقية دون الالتفات الجدي إلى حماية المواقع التراثية واستدامتها، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا بإدارة الدولة وإرادتها، كي لا تتحول هذه المواقع إلى سلعة رخيصة للاستهلاك اليومي دون جدوى، حينما تعمل السياحة على تدمير نفسها بنفسها حسب وصف منظمة السياحة الدولية. وتزداد خطورة الموقف حينما تتعامل جهات متعددة، تتنازع الصلاحيات والمسؤوليات، مع واقع مدينة بأهمية البتراء وقيمتها بما يفصح عن غياب الرؤية الشمولية لواقع المدينة ومستقبلها. قبل أسابيع قليلة اختارت شبكة (CNN) البتراء من بين مدن الشرق الأوسط لبث برامجها لساعات بمناسبة ذكرى تأسيس الشبكة؛ وقبل شهور قليلة جاءت البتراء في الترتيب السادس عشر ضمن قائمة من خمسين موقعاً في العالم نشرها موقع (BBC) الدولي لأهم المواقع في العالم التي يجب أن يزورها الإنسان قبل وفاته. إن البتراء اكبر من قصة السياحة على أهميتها. على الرغم من الضجيج الدائر محلياً حول استثمارات شبه فاشلة في البتراء، إلا إن هذه الاستثمارات وحجم النشاط التنموي المصاحب لها مازال متواضعاً جداً مقارنة مع ما تملكه هذه المدينة من عناصر جذب فريدة ومتنوعة، ومن طلب سياحي كامن لم يختبر بشكل جدي في مختلف أنحاء العالم. إن الفاجعة الحقيقية تكمن في المقارنة بين حجم العائد الوطني وتواضع التنمية السياحية من جهة، وبين ما تتعرض له المدينة ومحيطها من إرباك إداري وتنظيمي وتدهور في أحوال البيئة التراثية من جهة أخرى. ما نريد أن نقوله للحكومة،هو ان البتراء بحاجة إلى استراتيجية سياحية خاصة بها تقدمها للعالم، وهي الأقدر على ترويج الأردن بأكمله. وهذه المدينة، قبل ذلك، بحاجة ماسة إلى خطة وطنية مدعومة دولياً لإنقاذ وحماية آثارها، والا فسوف يقرأ أحفادكم وأحفادنا أرشيف الدولة الأردنية بعد عقود قليلة يتحدث عن مدينة غابرة تآكلت ودمرت كان اسمها البتراء، حافظت عليها أجيال لأكثر من ألفي سنة ولم نحافظ عليها لبضعة عقود!Basim.twissi@alghad.jo
0 comments:
إرسال تعليق