الغد: 11/12/2005
تقودنا التطورات في المشهدين السوري والمصري إلى خلاصة مفادها قدرة واضحة على احتواء إرادة الإصلاح السياسي، وما تتطلبه من تحولات واسعة في بنى الأنظمة القائمة وأدوارها إلى مجرد تحولات محدودة تضفي المزيد من الشرعية وتطلق ورشة عمل كبيرة لصيانة الوضع القائم والحفاظ على استمراره واستقراره معا، على قاعدة المثل المعروف (لا يموت الذئب ولا تفنى الغنم).تأتي هذه الصيغ المتفاوتة في أجواء تنتشر فيها التعليقات حول صفقات سياسية تقودها الولايات المتحدة بعضها مبيت منذ أكثر من عامين وبقي معلقا بانتظار الفرص المناسبة. ويتم في هذه الأثناء استثمار مناخ الاستفزاز الذي مارسته الولايات المتحدة طوال الاعوام الماضية على شكل ضغوطات وتهديدات لمعظم الأنظمة العربية بأن تبدأ بالتغيير والا يتم تغييرها، وتترجم صيغ هذه الصفقات السياسية عبر التطورات المتلاحقة. حيث بات في حكم المؤكد أن مشروع الإصلاح السياسي العربي وفق صيغته القادمة من الخارج يتنفس الصعداء في هذه الأثناء تحت وطأة تسويات سياسية تضمن بقاء النظم السياسية القائمة واعمدتها الفقارية الأساسية مع إحداث تغييرات محدودة هنا وهناك مقابل تنازلات في قضايا وملفات أخرى، أي أننا ننتقل عمليا من منهج الإصلاح السياسي إلى ما يسمى دورة التغيير المحدود والتي تعرفها معظم الأنظمة العربية وتمارسها بشكل مريح. طوال أكثر من ثلاثة عقود ونصف ومنذ "ثورة التصحيح" التي أطلقها السادات بات من المعروف دخول أداة جديدة في إدارة الاستقرار للنظم السياسية العربية، وهي "دورة التغيير المحدود" وهي أداة تكفل استمرار النخب المركزية وقواها النافذة، وتضمن استمرار هياكل النظام وقيمه مع إحداث تغييرات جزئية أو شكلية توفر الخروج من حالة الجمود وتآكل الشرعيات وامتصاص حالات الاختناق السياسي وتلبي بعض المطالب الشعبية وتجدد الدماء في النخب المحيطة بالمركز.حدث ذلك في مصر، حيث يمكن أن يرصد المراقب أربع موجات كبيرة لدورة التغيير المحدود، والموجة الخامسة تدشن اليوم، لكن البنية السياسية في عهد الرئيس الراحل السادات وفي عهد مبارك واستمراره في عهد "لجنة السياسيات في الحزب الوطني" لم تتغير كثيرا، بل حافظ النظام السياسي على هياكله وقيمه واستقراره الداخلي، وحدث ذلك في الجزائر رغم موجات العنف التي ضربت أعماق المجتمع، ونالت دورة التغير المحدود تونس وليبيا واليمن وحتى السعودية بأشكال وأنماط متفاوتة دون أن تترك أثرا إصلاحيا عميقا. المشكلة الكبرى، إن هذا النمط من التغيير لم يحدث تراكما إصلاحيا، لا في سنين ما قبل التسعينيات من القرن الماضي، ولا في أنماطه الراهنة التي تنفذ تحت وطأة ضغوط صعود خطاب الإصلاح أو باسم التغيير الشامل؛ فسرعان ما تقود الأحداث إلى تضاؤل موجة التفاؤل التي تصاحب هذه التغييرات وتعود المياه إلى مجاريها وكأن شيئا لم يحدث.في العام الماضي ازدادت الأصوات الأميركية المنبهة إلى خطأ الإدارة الأميركية في تحديد الإقليم القاعدة للتغيير في الشرق الأوسط؛ في إشارة إلى ما يقال حول التورط الأمريكي في العراق من جهة. وبأن القاطرة الحقيقية التي يمكن أن تقود الإصلاح على الطريقة الأميركية هي مصر وليس العراق. فمصر التي تملك اكبر تراث ديمقراطي في المنطقة والبيئة الجاذبة لنشر عدوى الديمقراطية والإصلاح، كما كانت في عهود سابقة البيئة الجاذبة لنشر عدوى الأفكار القومية والثورية، والقوة الناعمة التي تملك الهيمنة على وسائل الثقافة والإعلام والفنون، وعلى حد تعبير مجلة نيوزويك فإن (إعادة الديمقراطية المصرية إلى مسارها لا يتطلب اختراع العجلة, لكن المطلوب جعل هذه العجلة تتدحرج من جديد). رة أخرى تؤكد الأحداث بأن صراعات الشرق الأوسط التاريخية أصبحت العصا السحرية التي تجيد كل الأطراف فنونها في إعاقة حركة التاريخ وأي نوايا للإصلاح. لذا كان دخول مصر بقوة على ملف المقاومة الفلسطينية وقدرتها على انتزاع اتفاقات التهدئة، وسعيها لترويض حماس ودمجها في الحياة السياسية وضبط مسارات عملية الانسحاب الاحادي من غزة، فجميع هذه التطورات حسمت صفقة أخرى على صعيد ملف الإصلاح السياسي فأفرغته في دورة جديدة للتغيير المحدود تضمن بعض الإصلاحات المحدودة التي بدأت تشهدها مصر مؤخرا في الانتخابات الرئاسية التعددية والسماح برقابة محدودة على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وتقليص دور المؤسسات الأمنية وضمان صعود نسبة معقولة ومحددة من رموز الحركة الإسلامية إلى البرلمان ثم إلى بعض المؤسسات العامة، ثم تعيين نائب لرئيس الجمهورية. الصفقة السياسية على الجبهة السورية حتما تختلف في مناخها ومعاييرها لكن خلاصاتها من الجانب الأميركي ترتبط أيضا بالتسوية والموقف من الصراع العربي الإسرائيلي في أبعاده السورية واللبنانية والفلسطينية والموقف من الأوضاع في العراق وان كانت الأمور على الجانب المصري تمضي بهدوء واعصاب مريحة، فان الثمن فيما يتعلق بمزاج النظام وصورة الدولة سيكون على الجانب السوري أكثر قسوة وألما. وبالعودة إلى تقرير معهد واشنطن لسياسية الشرق الأوسط الذي قدم للرئيس بوش مع بدء ولايته الثانية، نلاحظ بعض الإشارات والتلميحات التي أوردها التقرير، التي تقرأ اليوم بشكل واضح، ومنها انه بوسع الإدارة الأميركية أن تدفع باتجاه التغيير الشامل في سورية بتقوية جماعات المعارضة، لكن هذا التغيير ليس خيارا ذا اولوية، ما يعني أن نظرية البديل غير مطروحة عمليا، وان ملامح الاتفاق الأميركي السوري قد أخذت تشق طريقها الوعر وستنتهي بعودة الحياة إلى مسار المفاوضات السوري- الإسرائيلي بعد حسم ملف حزب الله الذي دخل العملية السياسية مع الولايات المتحدة بشكل أو بآخر في حين سيكون نزع الأسلحة محدودا وسيعوض عنه في عملية إعادة انتشار على الحدود وتأمين الحدود العراقية. في المقابل سوف يحصر النظام السوري مطالب الإصلاح بنوع من الانفتاح الاقتصادي وإصلاحات محدودة ستأتي على شكل موجة جديدة من "دورات التغيير المحدود".بالفعل لا ينتظر في المدى القريب ترسيخ إصلاحات سياسية حقيقية في العالم العربي. ليس بفعل حجم الممانعة الداخلية وحدها، ويبقى الرهان الحقيقي على مدى قدرة هذه التحولات المحدودة على إحداث تراكمات حقيقية، وبالأخذ بأسباب التفاؤل فلا ينتظر أن نشهد دولا عربية تتداول فيها السلطة بسلام قبل عقد من الزمن.
0 comments:
إرسال تعليق