الغد:17/10/2012
يتجه الحراك السياسي العالمي فجأة من كوريا الشمالية إلى فنزويلا. وفي الوقت الذي تنشدّ فيه الأنظار نحو العراق والخليج، تتراجع قيمة أحداث وقضايا الشرق الأوسط التقليدية، ويبرز الاهتمام مجدداً بالملف الإيراني، ويزداد بقوة حضور بحر قزوين، وتهمل لبعض الوقت افغانستان، ولا بأس من بعض التسخين على جبهة دارفور. ومن وقت لآخر، تتراجع قضايا وتتقدم اخرى دون منطق سياسي أو استراتيجي واضح! هكذا تنساب الأحداث العالمية دون توفر أدنى قدرة على توقع اتجاهاتها او بناء رؤية حولها. وفي ضوء تذبذب حالة الانضباط الدولي خلف القوة العظمى، وافتقاد هذه القوة إلى رؤية واضحة لادارة العالم ومصائر شعوبه، يبدو أن العالم اليوم يدار بما يشبه جدول الأعمال اليومي، وأن اكبر هامش فيه هو لبند "ما يستجد من أعمال". يبدو أن اتجاه الولايات المتحدة نحو تفكيك وإزاحة تقاليد راسخة في العلاقات الدولية والسياسية الخارجية سادت عبر التاريخ يرتبط برغبة غير ظاهرة لإعادة صياغة مفهوم القيادة في النظام الدولي على اسس ممارسة القوة والإدارة الآنية. وثمة فرق واضح بين مفهوم القوة في العلاقات الدولية وممارسة هذه القوة في سلوك الولايات المتحدة في جهات عديدة من العالم، وفي ارتباكها حينما تواجه بمفآجات خارج احتمالات جدول الأعمال اليومي، كما ويتضح هذا في سلوك القوة العظمى الداخلي والخارجي في مواجهة الكوارث الطبيعية خلال الأسابيع القليلة الماضية. إن الإرباك في حسم الرؤية حول جدول المفاهيم والممارسات والسلوك السياسي ارتبط هذه المرة بافتقاد المركز، المحتكر للقوة الأولى في العالم، للمشروع النظري. إنها حالة نادرة في تاريخ توزيع القوة عبر العصور، تبدو في احتكار القوة واحتكار القدرة على ممارستها والافتقار للنظرية، أي المبادئ العامة التي تسيّر شؤون العالم، في حين أن المشهد الراهن يشير بأبسط تحليل بأنها عودة الأصولية الأيديولوجية التي نتجت في زمن ما عن المركزية الأوروبية، وبفعل إزاحة التاريخ للجغرافيا نحو الغرب بات مستقبل أوروبا والغرب بعيدا، يتمركز حول غرب الأطلسي، ويحمل الأفكار ذاتها التي صاغت قوانين القوة الأولى منذ بدء الاكتشافات الجغرافية مرورا بالثورة الصناعية الأولى إلى ميلاد عصر الاستعمار. فلا شيء يلوح في الأفق غير فراغ من القدرة على الإبداع والتجديد النظري، مقابل ممارسة اصولية ترجع العالم إلى أفكار المركزية التي دشنت بدايات المشروع الرأسمال الغربي. كان المشروع الحضاري اليوناني القديم يملك رؤية واضحة للكون والمجتمع والتاريخ والآخرين، كما الحال في المشروع الروماني والمشروع البيزنطي، إذ امتلك كل منهما القوة وحدد أهدافه في العالم القديم. كذلك جاء المشروع العربي الإسلامي في بدايات العصور الوسطى واضح الأهداف والرؤية واليقين، فهل نحن اليوم أمام منطق آخر للتحولات الحضارية التي تعصف بالدائرة الحضارية الغربية، وفي حلقتها الراهنة بقيادة الولايات المتحدة؟ وهل تجسد هذه اللحظة التاريخية عملية هدم لمنطق الامتلاء النظري الذي مارسه الغرب طوال القرون الأربعة الماضية، أمام عجز مثقفي القوة المهيمنة ومنظريها اليوم عن إنتاج مشروعهم النظري الجديد الذي طال انتظاره؟ كان "هيجل" أحد الآباء الأوائل لنظرية نهاية التاريخ وفرض السيادة المطلقة لليبرالية، حينما نادى بذلك بمذاق ايديولوجي آخر في مطلع القرن التاسع إبان الحروب النابليونية. وكان هيجل من المعجبين بنابليون وأفكاره ومخططاته لتوحيد القارة الأوروبية، لكي يشكل بذلك القاعدة الموضوعية لبناء التاريخ الكوني على أساس الأفكار الليبرالية التي كانت تضج بها المركزية الأوروبية. وفي الاستمرارية ذاتها في تعبيد الطريق التاريخية للأفكار الأصولية، يجسد ارنولد توينبي مقولاته الجديدة في النصف الأول من القرن الماضي في محاولة مشبوهة لتجاوز الفكر الأوروبي القائم على استعباد وتغييب وجود الحضارات العالمية الأخرى، وذلك بهدف تمرير فكرة عالمية الحضارة الأوروبية وسيادتها وشموليتها، وهو يعطي لتفوق الحضارة الغربية طابع القانون العام. وعلى الرغم من بعض المقولات التي تحاول أن تخرج توينبي من شبهة المركزية المحورية الغربية التي صادرت تاريخ النظم والأنساق الحضارية المختلفة، إلا أن ثنايا الخطاب وأعماقه تؤكد تلك الأصولية، ومنها التسليم المسبق بأن تاريخ البشرية ما هو بالتحليل النهائي إلا النسق الغربي، محذرا من عودة يقظة الحضارات، وعلى رأسها النسق الشرقي الإسلامي، ومدى إمكانية انتقال حركة الشعوب العربية الإسلامية من حال الانكفاء والتقليد إلى حال الانفتاح والتجدد. وهذا المصدر يعد أحد الأصول والجذور التاريخية الحديثة لمقولة صراع الحضارات التي فاجأ بها صمويل هنتنجتون أجواء الانتقال والتحول الدولي نحو الأحادية القطبية، واصبح اليوم ضجيج هذه المقولة في السياسة الدولية احد مصادر التحول إلى إدارة شؤون العالم بمفكرة المكتب اليومية. إن الفقر النظري الذي تعاني منه الإدارات الأميركية منذ مطلع التسعينيات هو أحد مصادر حالة الغموض والإرباك في العلاقات الدولية، حينما ينتقل مسار تسيير شؤون العالم من الفكر الاستراتيجي الخبير إلى مفهوم جدول الأعمال اليومي.basim.twissi@alghad.jo
0 comments:
إرسال تعليق