الغد: 16/10/2012
من بين أهم النتائج التي آلت إليها الانتخابات العراقية الأخيرة أن مستقبل العملية السياسية اصبح يمر في منعطف حرج، ويلفه الغموض بدون آفاق واضحة. الاستنتاج الثاني أن القوة الأولى المؤثرة في مسار الأحداث في العراق الجديد ليست الولايات المتحدة ولا حليفتها بريطانيا، بل إيران التي أصبحت تقترب ولاول مرة في تاريخها من حلمها العتيق بإعادة إنتاج نموذجها في الدولة الدينية في العراق. وبينما كانت القوى الرافضة لنتائج الانتخابات تطالب في بداية الأمر بإعادة الانتخابات في بغداد وحدها، التي جاءت نتائجها خارج دائرة التوقعات، ارتفع فيما بعد سقف المطالب ووصل إلى الدعوة إلى إعادة الانتخابات بأكملها، أو مقاطعة مجلس النواب القادم. بمعنى التوقف عن المشاركة السياسية من قبل (35) كيانا حزبيا وسياسيا تمثل كافة قوى السنة وقوى شيعية وعلمانية. لقد كانت الإشارات عديدة وظاهرة على المصير الذي تؤول إليه العملية السياسية، عبر محطاتها المتعددة منذ إنشاء مجلس الحكم الانتقالي مرورا بالدستور وما حمله من التباس، وصولا إلى الانتخابات الأخيرة. وهذا المصير لا يعني أن الخلل في كنه العملية السياسية، بل فيما رافقها من تدخلات إقليمية وتهيئة إجرائية محلية تواطأت فيها القوى المحتلة بصيغ مختلفة، مما سيصب المزيد من الزيت على نيران العنف التي ربما ستتخذ أشكالا واستقطابات أخرى غير متوقعة خلال الفترة القادمة. وعلى الرغم من أن الأكراد لم يكونوا عائقا حقيقيا في وجهة الإدارة الأميركية في صياغة العراق الجديد من مدخل آخر، فان أحد الأسئلة الملتبسة الأخرى تقف عند الحدود التركية. لماذا لم تمنح الولايات المتحدة لتركيا أي دور واضح في العراق مقابل الدور الإيراني؟ بالعودة إلى وثيقة التقرير الرئاسي الذي قدمه معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى للرئيس بوش في فترة ولايته الثانية نجد تركيا تحتل مكانة فريدة من المشروع الإصلاحي في الشرق الأوسط بصفتها الدولة الوحيدة ذات الأغلبية الإسلامية التي تتمتع بديمقراطية شبه كاملة في المنطقة، ولا يعني هذا أن تقدم الولايات المتحدة النموذج التركي لبقية الدول الإسلامية. لكن الأمر يتعلق بكون العديد من المسلمين يراقبون بإعجاب الاندماج المتزايد لتركيا ضمن المؤسسات الغربية ويتعلمون منها أساليب الإصلاح الداخلي، ومع هذا فضلت الولايات المتحدة وبريطانيا النموذج الإيراني الذي افرز جمهورية أخرى للعمائم. هل كانت الولايات المتحدة عاجزة بالفعل عن المضي قدما في فرض وقائع جديدة في العراق تمهد لأولية ثقافة سياسية جديدة تعيد بناء مفهوم الوطن العراقي. وفي هذا السياق هل كانت القوة المحتلة عاجزة بالفعل عن خلق توافق وطني يضاعف من فرص القوى الوطنية العلمانية من السنة والشيعية معا نحو الاقتراب الإيجابي من المجتمع السياسي الكردي؟ كل هذه الأسئلة تزيد من الالتباس حول مسار العملية السياسية التي جرت وتضفي المزيد من الغموض حول مستقبلها. نعلم بأن إصلاح الجدران المتداعية في علاقات العرب بالأكراد وتخفيض نبرة الماضي القريب تحتاج إلى عمل شاق، لكن ليس بمستوى ما هدر في العراق من جهود ودماء خلال الثلاثين شهرا الماضية. إحدى أهم مشاكل بناء التوافق الوطني العراقي حيث لا ديمقراطية بدونه تبدو في الاختراق الإقليمي الواضح للقوى السياسية المحلية، وعدم وجود توازن مستقر في مصالح الأطراف الإقليمية والدولية. فلقد بقي الاتحاد الأوروبي دون دور حقيقي وافرغ دور الأمم المتحدة من معناه وقيمته، ولا يوجد دور لمنظمة حلف الناتو مقابل الغياب الكبير لجامعة الدول العربية ولمجلس التعاون الخليجي والمؤتمر الإسلامي. هناك وقائع دلت فيما مضى على اختراق إسرائيلي لبعض الفصائل والقوى الكردية. لكن صناعة السياسة المحلية في العراق والمصدرة من الخارج زادت العملية السياسية التباسا وغموضا ونحن نشاهد كيف تنهار قوى سياسية وتصعد بسرعة قوى أخرى، وكيف تتحطم تحالفات وتبنى أخرى. في هذا السياق مارست إسرائيل اختراقها للقوى الشيعية بتحالفاتها المحلية والإقليمية ضمن ملف المجموعات الاستشارية والخبراء والمشاريع الغامضة. ويكفي أن نذكر أن إحدى أهم المجموعات الاستشارية العاملة في العراق اليوم في الاقتصاد والسياسة والأعمال وتمتد أعمالها من صناديق الاقتراع إلى آبار النفط هي مجموعة استشارية مشتركة (عراقية – إسرائيلية) بمشاركة سام الجلبي ابن أخ احمد الجلبي زعيم المؤتمر الوطني العراقي و(مجموعة مارك زيل الاسرائيلية). على كل الأحوال، تزيد هذه الاختراقات من الغموض الذي يلف مستقبل العملية السياسية في العراق، وكما يحتاج بناء التوافق الوطني إلى توازنات داخلية، فيحتاج إلى بناء توازنات في النفوذ الإقليمي وبدون التوازن الأخير لا يمكن الحديث عن توافق وطني صحي قابل للاستمرار.
0 comments:
إرسال تعليق