8/12/2005
لا توجد لدينـا تقديرات موضـوعيـة واضحـة حول حجم تأثير المتغيرات الاقتصاديـة على بنى المجتمع الأردني خلال السنوات القليلـة الماضيـة، لكن ما يصل إلى وعينا وما نلمسـه من شواهد ماديـة تبدو في تفاصيل الحياة اليوميـة يشير بكل جديـة بأن حجم ثقـة الناس بالعمل العام قد تآكل تحت وطأة الاختلال الواضح في القدرات التوزيعيـة لعوائد التنميـة ونتائجها. نعلم بأنه لا وقت لدى الحكومـة الجديدة، كما لا خيارات واسعـة أمامها للمناورة إذا ما أرادت استعادة بعض ثقة الناس التي تراجعت ليس فيما يتعلق بأداء الحكومات وحدهـا، بل وبأداء السلطات الأخرى وعلى رأسها البرلمان.
بقيت أولويات الأردنيين منذ عدة سنوات لم تتغير، مما يفيد ان الحياة لم تتغير كثيراً، وهو الأمر الذي ينعكس بشكل مباشر في نبض الناس اليومي وشؤون حياتهم وتفاصيلها الصغيرة، كما تؤكده استطلاعات الرأي المتكررة، وتدور تلك الأولويات حول مشكلتي الفقر والبطالـة، ومواجهـة الفساد المالي والإداري، ثم الطموح بإجراء إصلاحات سياسيـة. وفيما يتقدم الحراك السياسي المحلي مرة ويتراجع مرات أخـرى لم يلمس الناس تغيرات حقيقية تصل إلى تفاصيل العمق المجتمعي رغم كل ما يقال ويتردد حول الإنجازات التنمويـة، فالحلقـة الضائعـة في أدبيات الحكومات الأردنية المتعاقبـة تتكرر في ضعف القراءة الاجتماعيـة للتحولات الاقتصاديـة وما تنطوي عليـه من أرقام قد تبدو في الكثير من الاحايين خادعـة، والمشكلـة الحقيقيـة تتأكد حينما تتحول إنجازات الإصلاح الاقتصادي والإداري وغيرهما إلى رنين مزعج يزيد من غربـة القواعد الاجتماعيـة ويضاعف من متاعبها.
الحلقـة الضائعـة في التنميـة الأردنية هي الحلقـة الضائعـة في تحديد حزمـة تعريفات حقيقيـة وشفافـة لمفاهيم الإنجاز الوطني، فما نملكـه ركام هائل من الأرقام تتحدث عن انجازات لم تصل للأسف إلى الناس ولم تلامس أطراف أو أعماق المجتمع، والغريب ان الناس في بلادنا لديهم طاقـة كبيرة على التفاؤل كلما لاحت في الأفق ملامح أو وعـود بالتغير. ولكنهم - في المقابل- يملكون حساسيـة عاليـة قابلـة للانتكاس، وبصـورة اشمل تبدو عناوين الحلقـة الضائعـة في الفجـوة بين ما تسعى إليه الحكومات جاهدة على شكل أرقام وما يسعى نحوه الناس حثيثـاً في تفاصيل معاشهم اليومي. بمعنى آخر الفجـوة ما بين ما تريده الحكومات والنخب من حولها وما يحتاجـه الناس بالفعـل، مما يعيدنـا إلى مركز الدائرة حول إعادة تعريف الإنجاز الوطني من جديد.
قد حقق الأردن خلال السنوات الخمس الماضيـة على الصعيد الاقتصادي إصلاحات حقيقيـة، فلقد كان الأردن الأعلى إقليمياً أو الأكثر تقدمـاً في مجالات التنافسيـة، وجذب الاستثمـار الأجنبي، التنميـة البشريـة، الاستعداد المعرفي، ثروة الأمم، الحريـة الاقتصاديـة وغيرها. لكن الأمر الأكثر قدرة على إثارة القلق يدور حول ما الذي وصل من كل هذه الإنجازات إلى عمق المجتمع، حيث لم تتغير وقائع الفقر والبطالـة، ولم يحدث في أي منهما ازاحات حقيقيـة تسجل كإنجاز وطني بارز على الرغم ان ترتيب الأردن ما زال افضل من الجيران حولنا في موضوع الفسـاد المالي والإداري. إلا ان الحرب الدائرة ضد الفسـاد ما تزال محصـورة بصغار الفاسديـن، أولئك الذين تقام على رؤوسهم الدنـيا ولا تقعد، وهو ما يذكرنا بتقرير صدر في نهايـة العام الماضي كشف عن 263 حالـة فسـاد في صندوق المعـونـة الوطنيـة، اغلبها تخص موظفين سهلوا عمليات الحصـول على معونـة، فاتهموا بهدر المال العام أو تلقى بعضهم رشاوى من طالبي معونـة، أو تلاعبـوا بأوراق ووثائق من أجل الحصـول على معونات أي احتيال الفقراء على الفقر.
فإذا كانت الأرقام الاقتصادية صحيحة ولا شك فيها، فإنها بالمعنى الاجتماعي لا تملك صدقاً مجتمعياً، فأرقام النمو الاقتصادي على الأرجح صحيحة، لكنها لا تمثل نمواً حقيقياً فهي لا تمثل توازن الحد الأدنى بين القطاعات، فهناك قطاعات محدودة تستحوذ على هذا النمو وقطاعات أخرى ما تزال راكدة منذ سنوات مثلما يحدث اليوم لقطاع العقارات والإنشاءات، وأرقام السياحة صحيحـة، ولكنها غير صادقة فعلياً. فليس كل القادمين إلى الأردن الذين يحسبون على أنهم سياحاً هم بالفعل سياح، وليس كل سياحة الهنغاريين الذين يتدفقون على العقبـة سياحة بالمعنى الاقتصادي، والأرقام حول ما تقدمه المشاريع الجديدة من تشغيل للعمالة صحيحة، ولكنها غير صادقة مجتمعياً فنسبة ما تم تشغيله من العمالة الأردنية في قطاع الإنشاءات لا يصل إلى أكثر من 13%، والباقي لعمالة غير أردنية وهو القطاع الأكثر استحواذاً وهيمنة على الاقتصاد الوطني، في المقابل هو القطاع ذو التأثير الضعيف في نموه على المواطن الأردني، إذ لم يؤثر نموه أحياناً سلبيـاً على بعض الفئات.
كل هذه التداعيات تطرح أمام الحكومة الجديدة إعادة التفكير بمفهوم الإنجاز الوطني، وأن تبنى حساباتها وبرامجها وخطابها لنيل ثقة الناس قبل البرلمان على مفهـوم مختلف حول الإنجاز الوطني يمكن للناس ان يدركوه في تفاصيل حياتهم اليوميـة، فالناس بالفعل بأمس الحاجـة إلى الشعـور بإنجاز وطني حقيقي.
0 comments:
إرسال تعليق